ما بعد القمتين (جدة وطهران)
بقلم:جمال بن ماجد الكندي
شهدت المنطقة قبل فترة قصيرة قمتين ذات أبعاد سياسية وإعلامية وأمنية مهمة على سياسة التحالفات الاصطفافات السياسية ، وكان يعول عليها بأن ترسل رسائل خاصة ذات توجه استراتيجي معين خاصةً، قمة “جدة” وطبعاً العدو الإسرائيلي موجود في هذه الخارطة، ويحاول عبر الأمريكي الانخراط مع المحور الخليجي العربي المهادن للسياسة الأمريكية، والمتحالف نوعاً ما مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، التي كانت تريد من قمة جدة إيجاد كيان معادي لإيران وأدواتها في المنطقة.
فهل نجحت قمة جده بتفعيل هذا المشروع وإبرازه؟، وبالمقابل قمة طهران التي كانت بين الثنائي المزعج لسياسة أمريكا في المنطقة الروسي والإيراني، مع حليف أمريكا التركي الذي نستطيع أن نسميه المتمرد في بعض الآحيان عليها، فهل كانت نتائج قمة طهران فاعلة ومؤثرة على الأرض؟؟ من هنا سنحاول ذكر نتائج القمتين، ومدى نجاحهما في تحقيق الهدف والغاية الذي عقدت من أجله هذه القمم.
اولاً قمة جدة التي كانت بين أمريكا والدول الخليجية ومعها العراق ومصر والأردن ، فقبل انعقاد هذه القمة كثر الكلام الإعلامي والسياسي لمنظريها خاصة من الجانب الإسرائيلي بانها المنصة التي سوف ستشكل الجبهة السياسية والأمنية والعسكرية لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك وقال: بأنها ” ناتو عربي شرق أوسطي” لمجابهة إيران عسكرياً وسياسياً وهي بداية لدمج إسرائيل في المنطقة من بوابة العداوة لإيران وسياستها، وطبعاً هذه التصريحات تصب في الصالح الإسرائيلي والأمريكي، فأمنية إسرائيل في إيجاد جبهة عربية من دول التطبيع قديماً وحديثاً مع الآمال بزيادة هذه الدول، لتكوين ناتو عربي عدوه الاستراتيجي هو أيران وأدواتها في المنطقة، مع الناتو الأم الأمريكي الأوروبي الذي أصبح شعاره واضحاً بعد حرب أوكرانيا بأن أصبحت روسيا هي العدو الحقيقي في أوروبا، ولابد من محاصرتها اقتصادياً.
قبل أن نقول بأن هذه القمة حققت هذه الأمنية أم لم تحققها جاءت التصريحات من رؤساء وسياسي الدول المشاركة في قمة “جدة” قبل انعقادها، لترسم سياسة متصالحة مع إيران في عبارتها السياسية والإعلامية ووحدها الصحافة الصهيونية كانت ترفع سقف نتائج هذه القمة، فتوالت تباعاً التصريحات العراقية والمصرية والإمارتية بأننا لسنا في جبهة حرب أو معاداة مع الجانب الإيراني، ونفت كلياً هذه الدول بأن القمة من أجل “ناتو عربي” ضد أيران، فالمحاولات الأمريكية والإسرائيلية فشلت في تكوين هذا الحلف ولو بشكل إعلامي يستثمر في المفاوضات مع الجانب الإيراني من منطق أن دول المنطقة معنا وسوف تحارب إذا طلب منها ذلك. طبعاً الدول الخليجية والعربية تعلم وتدرك معنى معاداة إيران عسكرياً لما تترتب عليه من آثار مدمرة سياسياً وعسكرياً على المنطقة.
لذلك كان السؤال الجوهري للأمريكي من قبل من اجتمعت بهم، هل أمريكا جادة في تفعيل الاتفاق النووي مع إيران؟ وهل المواجهة مع إيران عسكرياً قادمة؟ والجواب كان من خلال تمسك أمريكا بالخيار الدبلوماسي وتفضيله على أي خيار آخر، وعندما أدرك زعماء قمة “جدة” ذلك انعكس في البيانات السياسية التي كانت في صالح إيران، وأغضبت الإسرائيلي، خاصةً بأن اللغة السياسية كانت لغةً مهادنة وتصف إيران بالجارة التي من مصلحتنا التفاهم معها وليس الحرب ضدها.
هذه النتيجة افشلت ما كان يروج لهذا الاجتماع بأن يكون رأس حربة لمجابهة إيران في المنطقة، وأرسلت رسائل التطمين لإيران بأن هذا الاجتماع ليس لخلق “ناتو عربي أمريكي إسرائيلي” عنوانه الرئيسي إيران، والمتابع لما حدث بعد القمة يدرك بأن هناك توجه سياسي واضح للمصالحة مع إيران وظهر ذلك باستعداد الجانب السعودي لتفعيل لغة الحوار السياسي مع إيران بأن يكون مباشرة بين البلدين، بعد أن كان عبر الوسيط العراقي، وإرسال السفير الكويتي والإماراتي إلى طهران رسالة قوية لفشل ما كانت تتمناه إسرائيل من قمة “جده”، والمرحلة الثانية هي إعادة العلاقات السعودية الإيرانية لسابق عهدها، وهذا بدوره سوف يترجم إيجابياً في مناطق الصراع العسكري والسياسي بين البلدين، وهنا نخص اليمن عسكرياً التي سوف تشهد انفراجات ولو نسبياً بتقدم الحوار السياسي الإيراني السعودي.
قمة “جده” كانت من أجل رفع أسهم الرئيس الأمريكي، لاسيما بأن نسبة مؤيدي سياساته خاصة بعد الحرب الأوكرانية كانت في تدني واضح، فهو جاء من أجل زيادة الإنتاج النفطي والغازي من قبل الدول المجتمعة المنتجة للطاقة في القمة، وهي محاولة لتخفيض أسعار النفط طبعاً على حسابنا نحن الدول المنتجة من أجل عيون المستهلك الأمريكي الذي ارتفعت نسبة البنزين في بلده ارتفاعا يهدد الحزب الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية القادمة.
كذلك من أجل إيجاد البديل للنفط والغاز الروسي الذي يزود أوروبا، فكانت مقررات القمة بزيادة الإنتاج خلال فترات زمنية معينة، على ألا توثر على الاتفاقيات الموقعة في “أوبك بلس” حيث روسيا من بين أعضائها، وهذا طبعا لكي تمسك الدول المنتجة للطاقة العصا من النصف، فلا مصلحة لها في توتير العلاقة مع روسيا سياسياً واقتصاديا.
قمة طهران كانت واضحة المعالم، وهي قمة مدرجة من قبل وفي إطار قمم “أستانا” بين الدول الثلاثة (روسيا وإيران وتركيا)، وليست ردة فعل على قمة “جده”، ومفاعيلها كانت اقتصادية وسياسية، فهي جاءت لتأكيد مسألة إيجاد عالم متعدد الأقطاب بعيدا عن الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وأقصد هنا فعليا هيمنة الدولار الأمريكي في التعاملات بين الدول التي تتكتل خارج المدار الأمريكي سياسياً وعسكرياُ واقتصاديا.
الاتفاقات الموقعة بعيدة المدى بين إيران وروسيا تقلق أمريكا وربيبتها إسرائيل، وقد عبرت إسرائيل عن انزعاجها لرؤية بوتين في إيران، خاصة بعد مواقفها في حرب أوكرانيا والتي أدركتها جيداً روسيا وكانت مفاعيلها الأمر القضائي الروسي بإلغاء الوكالة اليهودية في روسيا.
من نتائج قمة طهران إيقاف السعي التركي في التقدم بشمال سوريا عسكريا، فقد سمع الرئيس التركي من المرشد الإيراني كلاماً يحذر فيه من أي عملية عسكرية تركية في شمال سوريا، وتزامن حضور وزير الخارجية السوري لإيران لقمة طهران ليس صدفةً، ولكن من أجل احتواء ما تنوي تركيا عمله في الشمال السوري، وقد نجحت هذه المساعي.
الوضع في الشمال السوري بات معقدا خاصة بوجود الأمريكي وذراعه الكردي، المتمثل بقوات “قسد” التي عمادها قوات عسكرية كردية لها تطلعات وميول استقلالية لا تقبلها سوريا ولا تركيا ولا إيران وحتى روسيا، وربما هذا هو القاسم المشترك بين الدول الثلاثة وهو ما تحاول اجتماعات “أستانا” الوصول إلية تحت شعار وحدة الأراضي السورية وخروج المسلحين من الشمال السوري وتفعيل اتفاقية أضنة بين سوريا وتركيا.
قمة “جده” وقمة “طهران” كلا القمتين كانت لها أهداف تريد تحقيقها، ولكن قمة “جده” كانت مدفوعة بإعلام إسرائيلي أعطى لها أهمية كبيرة تصب في مصلحته، وصورها بأنها بداية عزلة إيران وقوى الممانعة في المنطقة، والنتيجة عكس ما أرادته إسرائيل لان المنطقة بكل بساطة لا تتحمل صراع عسكري جديد عنوانه إيران، والتجربة اليمنية شاهدةً على ذلك.
أما قمة “طهران” فهي إعلان للأمريكي بأن عصر القطب الواحد بات من الماضي، ونحن مقبلون على عالم متعدد الأقطاب والتحالفات السياسية والاقتصادية المبنية على التشاركية في المصالح والمنافع، وتفعيل منصة دول “بركس” وطلب انضمام دول أخرى محسوبة على المحور الأمريكي إليها هو بداية نهاية نظام أحادي القطبية في العالم.