جسد بلا روح
بقلم: د. ناصر الندابي
تغيرت ملامح عماننا منذ أن بزغ فجر الإسلام وألقى بظلاله الوارفة عليها، فاستقام منهجها، وشع سراج النور على جنباتها، فتفتحت عقول الناس، واغتسلت من أدران الشرك والأوثان، وغدت عمان منارة خير وإشعاع نور منبثق من مشكاة الإسلام وهدي القرآن.
ومن بين التغيرات الجذرية التي حسّن الإسلام مسارها، وصحح نهجها ومنهجها، أسلوب الحكم ومنهجية القيادة، فأصبح حكامها يسوسون الرعية على نور القرآن وهداية الإسلام، فكانت كل خطواتهم مصدرها الدين، وكل تحركاتهم نابعة من عمق العقيدة الغراء والسنة المطهرة، فلا يعقدون لواء إلا لرفع راية الإسلام ولا يبرمون معاهدة إلا وتجد بنودها نُحِتَت من فكر الإسلام وآراءه النيرة، ولا يأمرون الناس إلا للخير ولا ينهونهم إلا لما فيه مضرة لهم.
وحينما صعدت روح الهادي إلى باريها، وانقطع اتصال السماء بالإرض، وفقدت الأمة الإسلامية ربانها الماهر، وهاديها المعصوم، وقائدها الملهم، بدأت تستلهم خطط القيادة والسيادة من نهجه وسنته، ومن معين كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
على تلكم الخطى سار العمانيون حكاما وأئمة، ومنذ أن تغلغل مذهب أهل الحق والاستقامة في عقول العمانيين وقلوبهم، وخالط فكرهم وتفكيرهم، أصبح الدعامة الكبرى والحامي الأوحد والسور المنيع لدين الله الأغر يحميه من الأفكار الهدامة والأوهام التي استشرى أوارها في المجتمع لتحجب نور الحق وسماحة الإسلام.
ذلكم هو الروح الذي سعى بعض المغرضين لطمسه، وفصله عن جسده، فطفح على الساحة باحثون يدرسون تاريخ عماننا بمنأى عن هذا الروح، ويظنون أنهم بذلك قد بلغوا المجد والعلم من أوسع أبوابه، فحينما يقفون على حدث تاريخي يحللونه تحليلا بعيدا كل البعد عن المنهج القويم، فيخطِّئون إمام عمان لأنه نهج نهجًا ما لكونه خال من السياسة، السياسة التي رسموها اليوم في أذهانهم العارية من كل قيم الدين ومبادئ الإسلام، ولهذا فلا غرو أن بدا لهم أن ذلكم المنهج خاطئ وتلكم الطريقة غير سوية فالعقول تحكم على الأمور بما وقر فيها وعشعش في سويداء قلوبها.
فلا غرابة حينها أن نجد باحثا يرى من استشهاد الإمام الجلندى بن مسعود في سبيل وطنه ومبادئه تهورا وقصر نظر، وأنه ما كان ينبغي له أن يقدم على هذا الأمر ولا أن يسير في ذلك النهج، ناسين أو متناسين أن الروح تغدو رخيصة في سبيل الذود عن الوطن، وأن الحياة برمتها لا تساوي شيئا أمام الثبات على مبدأ رسمه القرأن وأمر به الرحمن.
وينظرون إلى إلقاء الإمام الوارث بن كعب الخروصي بجسده في الوادي لينقذ المساجين ضرب من الانتحار، وصورة من صور الغبش في التصور والتسرع في اتخاذ القرار، ونسوا أنهم أمام قامة من قامة العلم والدين، فلا يخطو خطوة إلا ويستحضر معها غطاء ديني يقيه من الوقوع في مزالق الهوى ووساوس الشيطان، فكان عنق الإمام مشرأب نحو الأفق البعيد، نحو الغاية العظمى، نحو الأخرة التي خشي أن يأتي ربه إليها وهو مضيع لأمانة الله والعباد، فمات مضحيا بنفسه من أجل الأمانة، فعاش عزيزا ومات عزيزا.
وكم من النماذج في التاريخ العماني التي لا يمكن أن تفهم بمعزل عن الدين، ولا يمكن أن نصل إلى كنهها وعمقها إلا من خلال القرآن والسنة النبوية، ونقول هنا أيضا أن الأراء تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر، خاصة تلك المتعلقة بمسايسة الناس وتنظيم شأنهم، ولكن كل هذه الاختلافات والآراء لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنزل إلى أرض الواقع دون أن يكون لها غطاء ديني يفتح لها الطريق وينير لها الدرب.
وخلاصة الأمر أن تاريخنا يحتاج إلى قارئ واع ملم بالعقيدة والفكر السياسي الشرعي، ومطلع على شتى الآراء الفقهية، قبل أن يقدم على دراسة أي حدث تاريخي.
هذه كلمات أحببت إلقائها على مسامعكم لتكون بداية لسبر أغوار تاريخنا ونبش صفحاته حتى ننهل من معينه الصافي وشرابه العذب الناصع.