“بين ثقافةِ التغيير وتغييرِ الثقافة”
بقلم : عبدالله الراشدي
لم يستطِع الأبُ مقاومةَ إلحاحِ ابنِه طويلاً لشراء لعبةٍ جديدةٍ، وهو يرى زملاءَه وأصدقاءَه يقتنونها، ولم تكن لديه الفرصةُ الكافيةُ – كالسابق – لدراسةِ محاذيرِ تلك اللعبة، ليمليَ عليه جملةً من اللاءات كشرطٍ لشرائها.
ذات المشهد قد يتكرر لدى الكثير من الأُسَر، في زمنٍ لم نَكَدْ نستوعبُ فيه كيفيةَ عملِ الأجهزةِ والتطبيقاتِ الذكيةِ إلا وتفاجأنا بأخرى أكثرَ منها ذكاءً، وفي زمنٍ باتت فيه الأميةُ رهناً بمدى استيعاب أبجدياتِ التقانةِ وما تفرزها من اختراعاتٍ وابتكاراتٍ متتالية، لم يعُد من السهل فيه المراهنةُ على اللاءاتِ والإملاءاتِ الخارجيةِ ما لم تكن الضوابطُ الداخليةُ محصنةً للتعامل بصورةٍ حذرةٍ مع تلك المستجدات.
وفي زمنٍ لم تكتفِ التقانةُ بإراحةِ أطرافِ الجسم من الحركة لكثرة أجهزةِ التحكم عن بعد فحسب، بل وأراحت حتى أصابعَ اليد من القيام ب ( الضغط ) على الأزرار والإكتفاءِ بتقنية ( اللمس ) على الشاشةِ اللوحيةِ أو إصدارِ الأوامر الصوتيةِ لإنجازِها، في هذا الزمن، ما لم تكن ممارسةُ الرياضةِ ضمنَ أولوياتِ الجدول اليومي أو الأسبوعي على الأقل، فلن نستبعدَ استمرارَ ارتفاعِ الحالاتِ المرضيةِ المرتبطةِ بالنمطِ المعيشي، كالضغط والسكري وأمراضِ السمنةِ وغيرِها، ولنا أن نتصورَ كيف يُمْكِنُ أن تكونَ صحةُ أبنائنا مستقبلاً وهم يقضون ساعات داخل الغرفِ المكيفةِ، يلعبون كرةَ القدم بواسطة (البلاي ستيشن)، وتأسرُ عقولَهم ألعابُ العنفِ والمصارعةِ في (الأكس بوكس) و غيرِها من الألعابِ الإلكترونيةِ الحديثةِ، لينطلقوا بعدها لامتطاءِ الزلاجة الكهربائيةِ ( السكوتر ) والتي إِنْ سلمنا بتوفرِّ البيئةِ المناسبةِ لاستعمالِها من حيث السلامة، فإنّ أضرارَها الصحيةَ الناتجةَ عن قلةِ الحركةِ لا يُمْكِنُ الاستهانةُ بها.
هذه ليست نظرةً تشاؤميةً بقدر ما هي قراءةٌ لمعطياتٍ واقعيةٍِ واستقراءٌ لنتائِجها المستقبلية، فالسعيُ نحو التغيير بات فرضاً لا يقبل رفضاً، والثورةُ التكنولوجيةُ في ظل كونِ العالم قريةً صغيرةً لا تطرق الأبوابَ للاستئذان بالدخول، ولم تعد ثقافةُ ( تشفير القنوات ) تجدي نفعاً، فالهاتف – مثلاً – وُجِد لتسهيلِ حياةِ الفرد من خلال الاتصال والتواصل مع الآخرين، وكذلك من خلالِ برامجِها وتطبيقاتِها الذكية، ولكن في ظلّ غياب بعض القيم، لم يعد غريباً أن تصلك صورُ مؤلمةٌ لضحايا حادثٍ ما، أو وثائقُ سريةٌ مسربةٌ من موقع العمل، أو شائعةٌ مغرضةٌ أو أخبارٌ مضللةٌ، وأصبح مألوفاً رؤيةُ البعضِ وقد أدمنوا الانغماسَ في العالم الإفتراضي كالواتساب وغيرِها من وسائلِ التواصلِ الاجتماعي لا تفرق عندهم جلساتُهم الفرديةُ عن الجلساتِ العامةِ مع العائلةِ أو الأصدقاء، ليكونوا مجتمعين بأجسادِهم متفرقين بأذهانِهم، حيث لا مجالَ لتبادلِ الحوارات والأحاديث المفيدةِ، كالسابق وحيثُ تُقابَلُ حكاياتُ كبارِ السن بحركات الإيماء للتمويه بأن حديثَهم قيدُ المتابعة.
وفي ظل غياب الوعي بمدى خطورةِ الانشغالِ بالهاتف أثناء القيادة وأنه “ليس في كل مرة تسلم الجرة” فلن تسلمَ شوارعُنا من عواقبِ اختلاسات النظر على الهاتف، ولن تجديَ حينها الضوابطُ الخارجيةُ من نقاط تفتيشٍ أو دوريات أو رادارات نفعاً، ما لم تكن لدينا قناعةٌ بأنَّ هفوةً بسيطةً كفيلةٌ بأن تكلفَنا حياتَنا وحياةَ الآخرين، وما لم يعقد كلُّ واحدٍ منا العزمَ على ترك الهاتف جانباً أثناء القيادةِ، فسيستمر نزيفُ الشوارعِ ليحكيَ قِصصاً عن مآسي ضحاياه المؤلمة.
لذا، ومن باب أنّ أغلبَ هذه التقنيات وتطبيقاتها لا تخرج من إطار كونها ( سلاحاً ذَا حدين ) فالأسلَم أن يحصِّنَ كلُّ إنسانٍ نفسَه ويحصّنَ أبناءَه ضد ما قد يؤثر عليهم خُلُقياً أو فكريّاً أو صحّياً، وهو بلا شك تحدٍ عظيم ومسؤوليّةٌ جسيمةٌ، تواجه القائمين على التربيةِ وتنشئةِ الأجيال، بدءاً من البيت ومروراً بالمدرسةِ وانتهاءً بالمجتمع ومؤسساتِ الدولةِ المعنيةِ، مع مراعاة منهج ( إنّ اللَّهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسِهم )، فإذا كان لزاماً علينا مسايرةُ (ثقافةِ التغيير) فيجب علينا أوّلاً السعيُ نحو (تغييرِ الثقافةِ) بما يضمنُ الحفاظَ على العاداتِ والتقاليدِ والقيمِ الأصيلةِ، إذ لا خيرَ في أمّةٍ تتنازلُ عن قيمِها وأخلاقِها، مهما بلغت من مراتبِ العلمِ والمعرفةِ، ولعلّ شاعرَنا الكبير أحمد شوقي اختصر ذلك بقوله :
إنَّما الأممُ الأخلاقُ مَا بَِقيت – فَإِنْ هُمُ ذهبَت أخلاقُهم ذهبوا