لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي
الدكتور محمد بن عبدالله بن سعيد الجهوري
وهجُ قانوني بعنوان
{ لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي }
نصت المادة 2 من قانون الإثبات في المواد المدنية و التجارية على أنه * لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي*.
و البين من النص أنه يقصد بعلم القاضي معرفته بوقائع النزاع خارج مجلس القضاء، ولقد أستقر العمل القضائي على مبدأ حياد القاضي والذي يعد المبدأ الأساسي الذي يحكم النظرية العامة للإثبات، فلا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي عن وقائع الدعوى دون أن يكون من قبيل ذلك ما يحصله استقاء من خبرته بالشئون العامة المفروض أمام الكافة بها ، كما أن عمل القاضي يرتكز على تطبيق القانون تطبيقا صحيحا، فلا يحكم بعلمه الشخصي لأن في ذلك سدا لباب التهمة والفساد.
فتضمنت المادة قاعدة عدم جواز الحكم بالإسناد الى علم القاضي الشخصي ، بمعنى لا يحكم القاضي في النزاع بالإسناد إلى الوقائع التي اطلع عليها بصورة شخصية كما لو حظر مجلس العقد مثلا ، و أما ما يطلع عليه من الوقائع بحكم ولايته بعد عرض النزاع على المحكمة وما يستنبطه منها من وجوه الحكم فليس من هذا القبيل لأن علمه بها لم يكن شخصيا و إنما حصل بصورة رسمية بعد عرض الدعوى على المحكمة.
وينبثق من ذلك أنه لا يجوز للمحكمة بأن تقضي في المسائل الفنية بعلمها، بل يجب عليها الرجوع فيها إلى أهل الخبرة والرأي ، كما لا يجوز للمحكمة أن تقضي في المسائل الفنية إلا بعد تبيان المصدر الذي استندت إليه فيما قررته .
ابتغى المشرع من هذا النص أن يمتنع القاضي تماما عند الفصل في الخصومة عن تأسيس عقيدته بناء على علمه الشخصي وليس المقصود فقط علم القاضي بواقعة الدعوى أو ملابستها الحقيقية التي قد تصل إلى علمه مصادفة. وإنما المقصود أيضا ألا يستند القاضي في واقعة معينه تحتاج إلى بحث أو رأي فني بحت إلى معلوماته الشخصية دون الاستعانة بأهل الخبرة في ذلك. ولا يخل ذلك بما هو مستقر عليه من أن المحكمة هي الخبير الأعلى إذ أن سلطة المحكمة تأتى بعد إيداع رأي أهل الخبرة الفنية في الأخذ به أو رده أو الأخذ بجزء من هذا الرأي وتطرح الأخر جانبا.
وقد استقر قضاء محكمتنا العليا على أن القاضي لا يملك الاستعانة بمعلوماته الخاصة في المسائل الفنية لأن هذا يعتبر من قبيل العلم الشخصي الذى يمتنع على القاضي الحكم على أساسه .
وفي قضاء محكمة النقض المصرية جاء أنه وإن كان لا يجوز للمحكمة أن تحل نفسها محل الخبير الفنى في مسألة فنية بحته لا تستطيع أن تشق طريقها لإبداء الرأى فيها بغير الاستعانة بأهل الخبرة إلا أن لها أن تستعين في كشف الحقيقة في الدعوى بالحقائق العلمية الثابتة دون أن بعد ذلك قضاء بعلمها الشخصى.
كما أن قضاء القاضي بعلمه يعني أن يقوم الدليل من جانبه، ثم أن حق الخصم في مناقشة كل دليل يؤخذ ضده يضع القاضي الذي يستند إلى علمه الشخصي في قضائه موضوع المناقشة من جانب الخصم، مما لا يتفق مع الاحترام الواجب للقضاء.
فيقصر دور القاضي على تقدير ما يقدمونه الخصوم بالطرق التي قررها القانون من أدله في الدعوى ولا يجوز له أن يعتمد على معلوماته الشخصية أو يقوم بجمع أدله غير المقدمة، فليس من وظيفة القاضي أن يساهم في جمع الأدلة أو يستند إلى دليل تحراه بنفسه.
على أن حياد القاضي لا يمنعه من استجلاء الحقيقة وفق ما خوله القانون من سلطة في توجيه الدعوى واستكمال الأدلة ليكون موقفه إيجابيا. هذا وأكدت محكمتنا العليا على أن القاضي لا يملك الاستعانة بمعلوماته الخاصة في المسائل الفنية لأن هذا يعتبر من قبيل العلم الشخصي الذي يمتنع على القاضي الحكم على أساسه .
ويقــول العلامة الــدكتور الســنهوري: أما منــع القاضــي مــن القضــاء بعلمــه لــيس فرعــا مــن مبــدأ حيــاد القاضـي ، بل هـو النتيجـة المترتبـة علـى حـق الخصـم في مناقشـة أي دليـل يقـدم في القضـية } و في موطن اخـر يقـول السبب : ذلـك ان علـم القاضـي هنـا يكـون دلـيلا في القضـية ، ولمـا كان للخصـوم حـق مناقشـة هـذا الـدليل ، اقتضـى الامـر ان ينـزل القاضـي منزلـة الخصـوم ، فيكون خصما و حكما وهـذا لا يجوز .
كما يقول الدكتور الجميعي : ويقطع في ذلـك ان القاضـي الجنـائي- ودوره ايجابيا الى حد بعيد – فلا يعتبر محايدا، ومع ذلك فهو ممنوع من القضاء لعلمه.
هذا و أن مبدأ حياد القاضى هو المبدأ الأساسي الذى يحكم النظرية العامة في الإثبات بعدم جواز قضائه بعلمه الشخصي عن وقائع الدعوى ، بيد إنه له القضاء بما يحصله استقاء من خبرته بالشئون العامة المفروض إلمام الكافة بها.
الجدير بالذكر إن مبدأ حياد القاضي لا يتصور أن يكون مطلقا في القانون العماني والقانون المصري لكون المشرعين ينتهجان نهج نظام الإثبات المختلط ، فإتباع مبدأ الحياد لا يمنع خروج القاضي عن مقتضيات هذا المبدأ في بعض الحالات ليكون دوره إيجابيا في الإثبات .
هذا ما تيسر بيانه على أمل مواصلة التوعية القانونية في وهَجٌ قانوني آخر.