المادة 54 من قانون الإثبات “القرائن”
الدكتور محمد بن عبدالله بن سعيد الجهوري
[email protected]
مقال { وهجٌ قانوني }
بعنوان { المادة 54 من قانون الإثبات *القرائن* }
نصت المادة 54 من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية على أن { القرائن التي ينص عليها القانون تغني من قررت لمصلحته عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات، على أنه يجوز نقض هذه القرائن بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك.
وللقاضي أن يستنبط قرائن أخرى للإثبات لم ينص عليها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود.}
والبين لنا من هذا النص أنه يجوز للقاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون ، والقرينة هي استنباط أمر مجهول من أمر معلوم ، فمهمة القاضي أن يستنبط من الوقائع والدلائل الثابتة لديه حقيقة الأمر في الواقعة المراد إثباتها.
ومحكمتنا العليا أشارت إلى تعريف القرائن في القرار رقم 50 في الطعن رقم 28/2004 تجاري الصادر بجلسة 23/6/2004 بأنها استنباط أمر مجهول من واقعة ثابتة معلومة بحيث إذا كانت هذه الواقعة محتملة وغير ثابتة بيقين فإنها لا تصلح مصدرا للاستنباط، ويقضي العكس بالعكس فإذا الواقعة غير ثابتة ومحتملة فلا يشتق منها حقيقة معلومة.
والمشرع أجاز الإثبات بالقرائن القضائية في جميع الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود، وجعل تقدير تلك القرائن منوطاً باطمئنان قاضي الموضوع ومن ثم فإن مبدأ الثبوت بالكتابة يجوز تكملته بشهادة الشهود كما يجوز تكملته بالقرائن حتى يكون له ما للكتابة من قوة في الإثبات.
وأجازت المادة(١٨٦) من قـانون الإجـراءات الجزائيـة ، للمحكمـة الاستفادة من محاضر التحقيق في استخلاص القـرائن واسـتخدام عناصرها في مناقشة المحقق كشاهد بعد حلفه اليمين، والاستئناس بأقوال المجني عليه القاصر مع قرائن الأحوال، ولهـا أن تسـتمد اقتناعها من أي دليل طالما أن لهذا الدليل مأخـذه الصـحيـح مـن الأوراق.
وأن لمحكمة الموضوع السلطة المطلقة في استنباط القرائن التي تعتمد عليها في تكوين عقيدتها سواء من التحقيقات أو محضر جمع الاستدلالات من الشرطة ومن شهادة الشهود بدون حلف اليمين متى كان استخلاصها سائغاً ، ولقاضي الموضوع أن يستنبط من وقائع الدعوى ومن مسلك الخصوم فيها القرائن التي يعتمد عليها في تكوين عقيدته.
وتعني القرينة: لغة الأمر الدال على الشيء أو المقصود، وهي مأخوذة عن المقارنة أي قرن الشيء بالشيء أي وصله ، وهي عند علماء اللغة أمر يشير إلى المقصود أو يدل على الشيء من غير الاستعمال فيه أو هي أمر يشير إلى المقصود أو الدلالة عليه لفظية كانت أو معنوية فهي سواء. والقرينة في دلالتها تتبع المصاحبة والاقتران بالشيء المتعلقة به قوة أو ضعفا وهي قد ترقى إلى درجة القطع والجزم أو إنها تهبط إلى حد الاحتمال البعيد فتهمل .
أما استنباطها فيكون حسب قوة الذهن ونفاذ البصيرة والنباهة والفطنة. وهنا نرى أن قول الفقهاء ورجال القانون منصب على القرينة القاطعة القوية التي تفيد اليقين سواء كانت لفظا في الدلالة والتي توصل إلى القناعة .
والظاهر أن مراد الفقهاء المسلمين من اشتراط اليقين أو القطع في مجال القرينة ما يشمل الظن الغالب لا خصوص اليقين القطعي، وذلك لأن دلالة طرق الإثبات مهما قويت فلا تخلو من ظن ولا يتوقف العمل بها على اليقين الذي يقطع الاحتمال .
أما تعريف القرينة في الاصطلاح القانوني*: فقد عرفها أساتذة القانون بتعاريف مختلفة الألفاظ متحدة المعاني هي طريق غير مباشر لإثبات الواقعة المجهولة المراد إثباتها من خلال الصلة بين وقائع معينة ينشئها القانون أو واقع حال الدعوى المنظورة. كل ذلك من أجل استنباط واقعة مجهولة من واقعة معلومة من خلال الربط بينهما عن طريق أمارة أو علامة دالة .
ويصار إلى الأخذ بالقرائن عند غياب الدليل الواضح الصريح لحسم النزاع. واستخدام القرائن في الإثبات يكون من قبل المشرع فينص عليها عند إعداده لقواعد قانونية سواء كانت قرائن قاطعة أو بسيطة وهي ما تسمى بالقرائن القانونية التي يقصد بها استنباط المشرع أمراً غير ثابت من أمر ثابت. وأما أن يكون استخدامها من قبل القاضي عند احتياجه لإقامة حقيقة قضائية عندما يصعب على المكلف بالإثبات إقامة الدليل، وهي ما تسمى بالقرائن القضائية التي يقصد بها استنباط القاضي أمراً غير ثابت من أمر ثابت لديه في الدعوى المقامة .
أن المستقرئ لمسائل الفقه الإسلامي يلاحظ أن فقهاء الأمة الإسلامية عملوا بالقرائن في مسائل كثيرة من الفقه الإسلامي ومنها مسائل اتفق الأئمة الأربعة على الأخذ بالقرائن فيها، وقد أوضح بهذا الخصوص الفقيه ابن فرحون بتخصيص فصل في كتابه تبصرة الحكام ذكر فيه حوالي أربعين مسألة مما اتفقوا على الأخذ بالقرينة مثال ذلك الإذن لمستأجر الدار في دخول ضيوفه وأصحابه عنده للجلوس والمبيت وأن لم يتضمن عقد الإيجار الإذن بذلك اعتمادا على القرينة. وهذا يعتبر مثالا على الأخذ بالقرائن التي اتفق عليها. وهناك مسائل كثيرة عمل بالقرائن فيها بعضهم وأهمل العمل بها البعض الأخر.
و المتمعن لكتب فقهاء الأمة الإسلامية يجد انهم عملوا بالقرينة في الجملة، وما هذا إلا دليل على اعتبارها عندهم ، لكن لم يذكروها صراحة في طرق الإثبات أو يفردوا لها باباً خاصا بها كالشاهد واليمين وغيرها من الأدلة أو من طرق الإثبات. حتى كان هذا مبعث خلاف بين متأخري فقهاء الأمة الإسلامية في جواز القضاء بالقرينة.
ومن أنصار جواز القضاء بالقرينة ابن تيمية وابن قيم الجوزية من الحنابلة، والقرافي وعبد المنعم بن غرس وابن فرحون وابن جزي من المالكية والزيعلي وابن الغرس وابن عابدين من الحنفية. ومن انصار عدم جواز القضاء بالقرينة الخير الرملي وصاحب البحر وصاحب تكملة ابن عابدين .
ان فقهاء الأمة الإسلامية الذين أجازوا القضاء بالقرينة* استنبطوا أدلتهم حول القضاء بها من الكتاب والسنة والمعقول، القرآن الكريم قوله تعالى: (جاؤوا أباهم عشاء يبكون. قالوا يا أبانا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين و جاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون).
أما السنة النبوية المطهرة (عن ابن كعب من حديث اللقطة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرفها فإن جاء أحد خبرك بعدتها ووعائها ووكائها فأعطها إياه والا فاستمتع بها) ، مع اختلاف الآراء التي قيلت بجواز أو عدم جواز القضاء بالقرينة، يذهب الرأي الراجح إلى أن أغلبية الآراء الفقيه تجيز القضاء بالقرائن كلها وعلة ذلك أن عدم إعطاء الفرصة للقاضي في حسم النزاع عند عدم توفر الأدلة الكافية لذلك يعني تعطيل سير العدالة واستمرار الخصومات بالإضافة إلى عدم تحريك ذهنية القاضي في التفكير والتحليل من أجل إيجاد المخرج المناسب للقضية المنظورة أمامه، ولهذا السبب نرى صحة الاتجاه الذي اعتبر القرينة من أدلة الإثبات كل ذلك في سبيل تحقيق العدالة.
و تقسم القرائن حسب مصدرها إلى نوعين هما:
أولا- القرائن القانونية وحجيتها في الإثبات: هي استنباط المشرع أمرا مجهولا من أمر معلوم وتنقسم القرائن القانونية إلى:
1- القرائن القانونية القاطعة: * وهي القرائن التي لا تقبل إثبات ما يخالفها كقرينة أو حجية الشيء المحكوم به أو قرينة العلم بالقانون وعدم الجهل بعد أن يتم نشره في الجريدة الرسمية، ويصبح نافذ المفعول حيث أن ذلك قرينة قاطعة على الناس كافة قد علموا به.
وطبيعي فإن هذه القرينة تعتبر في خدمة الصالح العام لأجل التمكن من تطبيق القانون بعدم الادعاء بالجهل به أي عدم العلم به .
2- القرائن القانونية البسيطة*: أي القرائن التي يجوز إثبات ما يخالفها أي عكسها ومن أمثلة هذه القرائن مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعة أو مسؤولية المخدوم عن أعمال الخادم، ومسؤولية من له الرعاية عن الأفعال التي يقوم بها المشمول برعايته.
وعلة هذه القرينة أن العدالة تقضي بأنه إذا سمح لشخص بإثبات دعواه يجب أيضا أن يسمح لخصمه أن يثبت ما ينفي هذه القرينة وإقامة الدليل على نفيها بطرق الإثبات كافة ومهما كانت قيمة النزاع أي حتى لو زادت قيمته على خمسة الأف ريال .
ان القرينة القانونية إنما هي من عمل المشرع وحده، ينص عليها القانون مقدما مؤسس قصده التشريعي على فكرة ما هو غالب الوقوع، فيختار واقعة معلومة يجعلها أساس للقرينة فيعتبر ثبوت هذه الواقعة إثباتا لواقعة أخرى مجهولة متصلة بها اتصالا وثيقا، فمن أراد أن يستفيد من حكم قرينة قانونية فيكيفه أن يقيم الدليل على توفر الواقعة التي يشترط القانون قيامها لانطباق حكم هذه القرينة ، أي أن موقف من يتمسك بقرينة لا يعدو عن مجرد الاستناد إلى واقعة قانونية، يفترض القانون قيامها ويقبل بذلك من تحمل عبء إقامة الدليل عليها، بيد أن هذه الإقامة لا تتناول إلا تلك الواقعة ممثلة في القرينة القانونية ذاتها، بمعنى أن من واجب من يتمسك بقرينة من القرائن أن يقيم الدليل على اجتماع الشروط التي يتطلبها القانون لقيامها ، ولكن القانون عندما تكفل بإثبات الواقعة المدعي بها عن طريق قيام القرينة ورفع عن عاتق الخصم المستفيد منها عبء هذا الإثبات- بصرف النظر عن قيمة التصرف موضوع النزاع، فإن ذلك الإعفاء لم يكن مطلقا إذ يبقى على ذلك الخصم الذي يتذرع بقيام القرينة لمصلحته أن يثبت الواقعة المدعي بها ، حيث يجب عليه أن يثبت وجودها وتوافر شروطها القانونية. فلو تمسك بقرينة الحيازة للمدة الطويلة المكسبة للملكية، فعليه أن يثبت وضع يده على العقار مدة خمسة أعوام وفقا لقانون الأراضي بصفته مالكا من دون منازع وضعا هادئا مستمرا مستوفيا لجميع الشروط .
ثانياً- القرائن القضائية:
وهي التي لا ينص عليها القانون وإنما يستنبطها ويستخلصها قاضي الموضوع من ظروف الدعوى المنظورة أمامه.
و ان استنباط القاضي الأمور المجهولة لديه في الدعوى من الأمور المعلومة من ظروف ووقائع الدعوى وموضوعها تتوقف على خبرته ومدى قدرته على فهم الوقائع، فهذه القرائن لا حصر لها فهي كثيره ومتعددة يستنتجها القاضي من موضوع كل دعوى وملابسات ظروفها وما يتسنى له من الوسائل العلمية والعملية . فالقرينة القضائية دليل غير قاطع قابل لإثبات العكس لأنها أضعف الأدلة، لكن من حق محكمة الموضوع التقدير والأخذ بالقرائن والأدلة التي تتفق مع قناعتها القضائية.
فتكون القرائن هي الإمارات التي يستخلصها القاضي من الواقعة المطروحة أمامه فهي رهن بفطنته وذكائه وشدة ملاحظته وربطه للأمور بعضها مع بعض لإثبات ما يريد إثباته من الوقائع. والقرائن القضائية ليست متناهية فهي تتجدد بتجدد الحوادث والقضايا المعروضة فلكل واقعة أماراتها وعلاماتها وبالتالي قرائنها الخاصة بها، على أن تلك القرائن يمكن إثبات ما يعاكسها بكافة وسائل الإثبات وحتى بقرينه قضائية أخرى ولذلك فإنها دون القرينة القانونية في الحجية ، ولهذا يجوز الإثبات بالقرائن في الأحوال التي يجوز الإثبات فيها بشهادة الشهود لأن هذه القرائن تعتبر أدلة غير مباشرة حيث إنها تعتبر من الأدلة الاستثنائية مبنيه على استنتاجات القاضي فهو إنسان كسائر البشر قد يخطئ في استنتاجاته أو يصيب.
هذا ما تيسر بيانه على أمل مواصلة التوعية القانونية في وهَجٌ قانوني آخر