بقلم:الدكتور محمد بن عبدالله الجهوري
[email protected]
تتجلى الحكمة من النظام القانوني للنفاذ المُعجل للأحكام القضائية من زاويتين أساسيتين، الأولى: تتعلق بالتوازن بين مصالح الخصوم المتعارضة، أما الثانية: بالحد من المماطلة الإجرائية وذلك على النحو التالي:
أولًا: التوازن بين المصالح المتعارضة للخصوم:
إن نظام النفاذ المعجل قد أملاه حرص المشرع، على إقامة التوازنات بين المصالح المتعارضة بين المحكوم له والمحكوم عليه ، ففي ذلك مصلحة للمحكوم له، فقد يؤدي طول انتظاره وحتى صيرورة الحكم انتهائياً، إلى حرمانه من الانتفاع بكامل حقوقه، والذي يكون هو في أمسّ الحاجة إليها ، والتأخير في تنفيذ الحكم بهذا المعنى، هو من عوارض النظام القانوني، والذي يواجه بالحماية الوقتية المستعجلة، ويعد التنفيذ المعجل نوع من أنواع هذه الحماية، للتغلب على خطر التأخير والمحافظة على قيمة الوقت في التقاضي، وقد أجاز المشرع رعايةً لمصلحة المحكوم له وفي بعض الحالات، تنفيذ بعض الأحكام ولو كانت قابلة للطعن فيها بطريق الاستئناف، أو طُعن فيها فعلاً بهذا الطريق، ويوصف هذا التنفيذ بأنه معجل؛ لأنه يجري قبل الأوان الطبيعي الذي ارتضاه المشرع لمنح الأحكام القوة التنفيذية.
أيضاً راعى المشرع في هذا النطاق مصلحة المحكوم عليه، وفي ذلك ألا يُنفذ ضده من الأحكام، إلا ما استقر منها وأصبح غير قابل للطعن، وغير محتمل إلغاؤه من محكمة الطعن، ولذلك فقد وضع المشرع مجموعة من الضمانات، لاتقاء الضرر الذي من الممكن أن يلحق به.
ولم يكن المشرع العماني بعيداً عن فكرة المواءمة بين المصالح المتعارضة للمحكوم له والمحكوم عليه، حيث أكد قانون الإجراءات المدنية والتجارية في الكتاب الثاني الفصل الأول منه ؛ على ضرورة تحقيق التوازن بين مصلحة الأطراف، على اعتبار أن النفاذ المُعجل ما هو إلا نظام يحقق توازن بين مصالح الخصوم.
ولمّا كانت القاعدة العامة في التنفيذ هي أنه: لا يجوز تنفيذ الحكم إلا إذا كان حائزاً لقوة الأمر المقضي، أي إذا كان انتهائياً لا يقبل الاستئناف ، أما الأحكام غير الحائزة لقوة الأمر المقضي أي تلك الأحكام غير النهائية، والتي يجوز الطعن فيها بالاستئناف، الأصل فيها أن مثل هذه الأحكام لا تقبل التنفيذ الجبري ، غير أن المشِّرع أجاز تنفيذها إذا ما كانت مشمولة بالنفاذ المعجل وفي مثل هذه الأحوال فإن شمول الحكم بالنفاذ المعجل بتقرير من القضاء، قد يكون معلقاً على تقديم كفالة، بحيث لا يجوز تنفيذه إلا بعد تقديمها، أو بدون كفالة حسب تقدير القاضي، وهذا النفاذ سمي نفاذاً مؤقتاً أو وقتياً ، على اعتبار أن تنفيذه غير نهائي، إذ يتوقف مصيره على مصير الحُكم أمام محكمة الطعن، وهو ما يجعلنا أمام فرضين لا ثالث لهما، إما تأييد الحكم وفي هذه الحالة يستقر الحكم ويتم تنفيذه، وإما حالة الإلغاء فيتم إعادة الحال إلى ما كانت عليه.
إلا أنه قد تعددت الاعتبارات والتبريرات، والتي دعت المشرع إلى تقرير نظام النفاذ المُعجل القضائي، فهناك بعض الحالات يكون فيها سند المحكوم له قوياً؛ وبحيث يرجح معه احتمال تأييد الحكم إذا طُعن فيه، وحالات أخرى يكون فيها المحكوم له ممن رعاهم المشرع برعاية خاصة؛ كالحكم بأجور العمال أو التعويض الناشئ عن علاقة العمل .
ولقد أشار المشرع ؛ إلى أن هناك نوعين من القوة التنفيذية، وهي قوة وقتية بقوة القانون، وقوة وقتية جوازيه بحكم المحكمة ، والمقصود من الأحكام التي تخضع لتلك القاعدة، وهي التي تكتسب القوة الوقتية، سواءً بقوة القانون أو بحكم المحكمة، هي فقط تلك الأحكام الابتدائية الصادرة عن محاكم أول درجة ، أما الأحكام الصادرة من محاكم الطعن؛ فإنها لا تخضع لهذه القاعدة .
وعلى ذلك فإن الحل التوفيقي الذي اعتمده المشرع ، في نظام النفاذ المعجل، جاء على أكثر من مستوى، فعلى مستوى القاعدة العامة في تنفيذ الأحكام وهو التنفيذ العادي، لم يقم المشرع بربط القوة التنفيذية للأحكام واعتباره باتاً، أي غير قابل لأي طريق من طرق الطعن حتى غير العادية، وإلا في هذه الحالة فقد ينتظر المحكوم له وقتاً ليس بالقصير لإمكانية تنفيذه، مما قد يؤثر على مصلحته، بل ربط ما بين القوة التنفيذية لتلك الأحكام وبين قوة الأمر المقضي، أي بمعنى عدم قابلية الحكم للطعن بالاستئناف ، فإن قوة التأكيد القانوني للحق الثابت في هذا الحكم لم تصل في هذا التوقيت إلى درجة اليقين القانوني النهائي، وإنما هي تقوم في الأساس على درجة الاحتمال العالي أي درجة الرُجحان .
و الجديرُ بالذكر أن قانون الإجراءات المدنية و التجارية ، قد أسس ذلك النظام على فكرة الرجحان؛ باعتبارها صورة من صور فن التوفيق بين المصالح المتعارضة، وخيرُ مثال على ذلك النفاذ المعجل القضائي وأساسه التشريعي هو المادة 347 / ج من ذات القانون ، وهو في الأساس مبني على قوة سند الحق، حيث اعتبر في هذه الحالة أن رجحان حق طالب التنفيذ أي المحكوم له يبرر النفاذ المعجل في هذه الحالة .
و نرى أن المشِّرع قد وازن بين مصلحة المحكوم له طالب التنفيذ من ناحية، وبين مصلحة المحكوم عليه المنفذ ضده من ناحية أخرى، وأعتمد على احدى الطرق المتبعة في السياسة التشريعية، وهي سياسة الحلول التوفيقية، والذي تعتمد وفي الأساس على إيجاد حل وسط، يقوم على أساس فن التوفيق بين المصالح المتعارضة.
فما بين مصلحة المحكوم له، طالب التنفيذ في اقتضاء حقه، الثابت بالحكم في أقرب وقت ممكن وبأقصر الطرق المعتمدة قانوناً، ذلك أن العدالة هي ليست فقط إعطاء كل ذي حق حقه، ولكنها إعطاء كل ذي حق حقه في الوقت المناسب ، فانتظار المحكوم له إلى أن يصبح الحكم الصادر لمصلحته انتهائي، قد يترتب عليه ظلم له، وذلك بحرمانه من الانتفاع بحقوقه، وقد يكون في أمس الحاجة إليها ، بل وضياع جزء من حقه أو كله، فقد لا يكون عرضة فقط لخطر ضياع حقه أو جزء منه أو من قيمته، بل قد يصل الأمر لأكثر من ذلك؛ إذا تصرف المحكوم عليه في أمواله التي تشكل الضمان العام لدائنيه قبل صيرورة الحكم نهائياً ، أضف إلى ذلك التأثير الواقع على المحكوم له، من الشعور بعدم الفاعلية للحماية القضائية في مجال تطبيق المنازعة، وهو قد أمضى من وقته وماله في سبيل الحصول عليه.
وما بين مصلحة المحكوم عليه في الانتظار والتمهل في تنفيذ الأحكام، وذلك إلى أن يصل الحكم الصادر ضده إلى المرحلة الأخيرة والنهائية، فهو يُمني النفس أن يعدل ذلك الحكم في المراحل المقبلة لصالحه؛ أو على الأقل أن تخفف عواقبه عليه أمام محكمة الطعن ، فيمكن القول بأن التأكيد القانوني لحق المحكوم له؛ لم يصل بعد إلى درجة اليقين البات والنهائي، هذا اليقين لم يوجد ولن يتحقق إلا بعد إمكانية الطعن عليه بعد الحكم، هذا فضلاً عن أن استقرار الحقوق والمراكز القانونية يدعو إلى التمهل والتريث قبل المضي قدماً في إجراءات التنفيذ، وذلك بربط إمكانية تنفيذ الحكم القضائي بصيرورته نهائيا .
وما بين مصلحة المحكوم له من ناحية، ومصلحة المحكوم عليه من ناحية أخرى، فإن الرغبة في منح الحماية الوقتية للمحكوم له، وذلك بمنحه ميزة إمكانية التنفيذ بحكم لم يصبح انتهائيا، بعد إقراره من القضاء، لا تعني بأي حال من الأحوال التضحية بحقوق المحكوم عليه، ولذلك فقد وضع المشرع مجموعة من الضمانات؛ لمحاولة انتفاء الضرر قدر الإمكان الذي قد يلحق به .
وقد تعددت الاعتبارات والتبريرات؛ والتي دعت إلى تقرير نظام التنفيذ المعجل القضائي، فهناك بعض الحالات يكون فيها سند المحكوم له قوياً وبحيث يرجح معه احتمال تأييد الحكم إذا طعن فيه، وحالات أخرى يكون فيها موضوع الدعوى مستعجلاً لا يحتمل أي تأخير، ويتعين تنفيذ الحكم الصادر فيه فوراً، وإلا فات الغرض الذي قصده المشرع من طرح الموضوع بهذه الصفة على القضاء، وحالات أخرى يكون فيها المحكوم له ممن رعاهم المشرِّع برعاية خاصة؛ كالحكم بأجور العمال .
ثانيا: الحد من المماطلة الإجرائية في التنفيذ:
لا تتجلى الحكمة فقط في المواءمة بين المصالح المتعارضة للخصوم، وإنما لتجنب التسويف الإجرائي والبطء الشديد في الإجراءات التنفيذية ، وقطع السبل التي يمكن من خلالها للمحكوم عليه أن يتذرع بالتأخير في التنفيذ مستفيدًا من الأثر الموقِف للطعن .
وبالتالي يكون من أهم مبررات اللجوء لنظام النفاذ المعجل، الهروب من عدم ملاءة المدين التي ربما يلجأ إلى افتعالها عند بدء التنفيذ للإفلات من التزاماته ، الأمر الذي يستدعي نفاذ الحكم معجلاً بعد إبداء الخصم صاحب المصلحة رغبته في شمول حكمه بالنفاذ المعجل، دون انتظار مضي مهلة الطعن، أو الفصل في الطعن المرفوع .
بناءً عليه؛ يتميز النظام القانوني للنفاذ المعجل القضائي بأنه وسيلة علاجية ، من شأنها معالجة مشكلة بطء إجراءات التقاضي التقليدية، فهو يتيح الحصول بسرعة على سند تنفيذي بأمٍر من القضاء.
هذا ما تيسر بيانه على أمل مواصلة التوعية القانونية في وهَجٌ قانوني آخر.