أحلام وشاهين
بقلم:عبدالله بن حمدان الفارسي
قبل الأمس القريب كانت تشاركني كل تفاصيل فرحتها لاقتراب حدث مهم وقادم في حياتها، وتروي لي بتأتأة البراءة حكاية مشوارها اليومي، بدءاً من إشراقة شمسه ولغاية سيطرة النعاس على عينيها الجميلتين، وكلما لاحظت ملامح وجهي اكتستها علامات الملل أو الشرود الذهني من إرهاصات الحياة المعتادة تزيد من نبرة صوتها أو تمسك ذقني بكفها المخملي الملمس؛ لتشيح بوجهي نحوها في محاولة منها لشد انتباهي بالتركيز لما تقول، وإجباري بعفويتها وفطرتها على الاصغاء..لكم كانت تتحدث وفرحتها تحلق بها في فضاء الأحلام التي مهما اجتهدنا للتعايش معها لن نتمكن من ذلك؛ لأن اختلاف العالم والمعالم والفرق شاسع بين عالمنا الواقعي وعالمها الأقرب للمحال منه للخيال..
وكلما تمعنت في خطواتها الراقصة وسبر كلماتها وترجمة معانيها من صوتها العذب بترانيم المساء ونغمات الصباح المتزامنة مع تغاريد وزغزة العصافير القابعة رغما عنها في أقفاصها بفناء المنزل، تتولد في أعماقي نشوة التفاؤل والابتهاج ويُطربُ قلبي معها..
في حديثها حب، وفي لمستها رقة، وفي ضحكتها قصيدة يشدو بها من لا يقرض الشعر، ولا يفقه بحوره؛ لبساطتها وسلاستها ونقاوة تبسمها..
هي باكورة كل المشاعر النبيلة والبهية في حياتي، هي جمال روحي لحظة التكوين، فيه امتزاج بين الخيال بنمط الواقع، وواقع يحتويه الخيال..
أحلام قد مكنتنا معاً من الاسترسال والاسترخاء لرسم منهجيات حياتنا القادمة، وإضفاء الألوان ذات النقاء غير الاعتيادي عليها، ولأنها إبداع إلهي بكل مايعني المعنى بالنسبة لي، أدمنت مجالستها والاستماع لنوتات صوتها الندية مما جعلني في كثير من الأوقات ألغي جزئيات مهمة في يومياتي وأحذفها من جدول التزاماتي..
أحلام ذهبت وتلاشت معها الأحلام، رحلت في رحلة سعيدة ولكنها بلا عودة، نعم في تلك الليلة التي توشحت بالسواد غير الطبيعي بسبب كثافة السحب وغزارة زخات المطر الثقيلة المزعجة، يرافقها عواء الرياح المخيف، وصراخ الاستغاثة المرعب الذي يُجهل مصدره لعدم إمكانية رصده، وضوضاء ممتزجة مع فوضوية المكان والزمان، يلفحك برد قارص يشعرك كأنك في يوم ولدتك أمك رغم كثافة ماترتديه، فكل مايحيط بك فاتح فيه؛ ليلتهمك في أي لحظة..
الشيء الذي يضفي عليك نوعا من الطمأنينة المؤقتة هو شعورك بملامستك واحتضانك لأفراد عائلتك، وكأنك قد شكلت حولهم بذراعيك سلسلة طولها سبعون ذراعاً وقوتها عشرون حصانا، ورغم الاحتياطات الممكنة في تلك اللحظة إلا أنك من الصعوبة بمكان التيقن بكل ماتقوم به هو الصواب، فمن الاستحالة التركيز والتكيف على نسق واحد، فكل ثانية من عمرك لحظتها تبسط لك على طاولة محطمة مبعثرة عشرات الحلول والأفكار المشوشة، ومع التسليم والاستسلام بما قدره وكتبه الله، وفي لحظة يأس وتعب وكلل واسترخاء لذراعي، وتشتت جزئيات بصيرتي وعدم القدرة على مواصلة التحدي طارت أحلامنا في لمحة بصر مع انعدام البصر والبصيرة لحظتها، ذهبت مع الريح أحلامنا خطفتها مخالب(شاهين)..
(أحلام) هي فلذة كبدي، وأول فرحتي، وباكورة حبي الفطري التي ذكرت..
هذا عامها الدراسي الأول، لكم كانت فرحتها فريدة بالكيف والكم لالتحاقها بالدراسة هذا العام، وتحدثها بشغف عن يومها الدراسي، والتباهي بزيها المدرسي بني اللون أمام من يصغرها سنا من أخواتها وبنات الجيران، وكيف تعرفت إلى صديقتها (مريم) التي كانت تشعرك حين التحدث عنها كأنها توأمها وليست زميلة دراسة، ومعلمتها (أسماء) التي أحبت، والتي باتت تقلدها في تصرفاتها وتثني عليها وعلى دماثة خلقها..
ربما لشاهين عودة، ولكن بهيئة أخرى وبمسمى آخر، ولكن لاعودة (لأحلام) إلا أن يجمعنا الله بها في الفردوس الأعلى.