جوزفين (فتاة القمر)
بقلم : سميحة الحوسنية
عزفت (جوزفين) بأناملها الصغيرة الناعمة على أوتار الصبابة ألحانًا أوجعت قلب الليل، فأبكت عيون السماء وبنات نعش في ليلة جوفاء موشحة برداء الصقيع. (جوزفين) ذات الثانية عشر عامًا تطوقها حقول الخزامى العطرية في كوخها الصغير تجاورها (بنات القمر) في تلال النور .. فكم يقطر الشهد من ملامحها الفتانة التي تفيض منها البراءة ويستمد (سهيل) من حمرة وجنتيها جمالًا يخالط صفاره وينتعش الصباح من ابتسامتها ويستمد الأمل من ثغرها الباسم وغمازة تتساقط فيها جثث العيون الهائمة .. وشعرها الطويل الأسود مموج الأطراف .. معطر برائحة زهرة (الليلك) العطرية .. فالليل عالمها الذي تنتمي إليه فهي فتاه القمر.
(جوزفين) اليتيمة التي ترعرعت في كنف عمتها (جوانا) فقدت والديها بحادث سير غيّر مجرى حياتها لتصبح وحيدة تخنقها عبرات الصبابة والحنين لحضن والديها.
كانت (جوزفين) ترى في حضيرة القطيع سحرًا، فمعزتها البيضاء (لونا) كانت رفيقتها عندما تتجول في الحقول وترقص مع نسمات الربى كملاك يطوقها الربيع .. ذات يوم سقطت (جوزفين) على الأرض في الغابة المطرة، فمضت نعجتها (لونا) تشد رداء عمتها العجوز (جوانا) والتي أصابتها الدهشة من حالة الضجيج الذي أحدثته، فماإن وصلت العمة حتى أصابها الهلع والخوف عندما رأت (جوزفين) مستلقية على الأرض، فأخذت تصرخ، فأتى (جوزيف) يسابق الريح ويقتلع أشجار (الاقحوان) من سرعته لينقذ ملاك الربيع (جوزفين) التي أصيبت بنزيف في رأسها، فاصطحبها إلى المستوصف، وهناك بدأت حكاية جوزفين مع المرض ..
الجيران :يا إلهي ماذا حدث ل(جوزفين) الجميلة؟.
العمة: لقد سقطت على الأرض، فرأيت قطرات الدم تخالط خضرة (الأعشاب).. يا إلهي ساعدها.
الدكتور: لقد غابت (جوزفين) عن الوعي ادعو لها بالشفاء.
(سيدرك): أخبرني يا دكتور .. ماذا حدث ل(جوزفين)؟ لماذا غابت عن الوعي؟.
الدكتور: في الحقيقة أن (جوزفين) مصابة بمرض السرطان.
(سيدرك): ماذا تقول يا دكتور؟.. (جوزفين) لاتعاني من أعراض مرضية.
الدكتور: إنني اقول الحقيقة يا بني.. نسأل الله لها الشفاء العاجل.
بدأت (جوزفين) تتغير ملامحها الجميلة، فغدت شاحبة وصفراء كغصن يابس، وبدأت تفقد خصلات شعرها التي أخذت تتساقط كشلالات على البلاط .. ومضت الأيام و(جوزفين) تصارع الغيبوبة حتى أتت العصافير تطرق نوافذ غرفتها تحمل في منقارها أغصان الخزامى البرية فوضعتها على سريرها فأخذت نعجتها تتحرك يمنة ويسرة، محدثة أجراسها الضجيج فانفرجت أهداب (جوزفين) لتصحو من الغيبوبة وتشم رائحة الربيع ولكنها شعرت بالحزن عندما نظرت إلى مرآتها، فملامحها مجهدة، وتبدو تجاعيد المرض واضحة عليها وبدأ شعرها يتساقط شيئا فشيئا .. ولكن فرحتها بعودتها للحياة كانت أكبر من تلك التفاصيل، فقررت أن لاتستسلم للمرض وأن تعيش حياتها برفقة أهلها وجيرانها الذين كانوا يتسابقون صباحًا بجلب الفطور وسلات الفواكه الطازجة لكي تستعيد (جوزفين) صحتها.. صنعت لها العمة غطاء للرأس وأخذت تقرأ القرآن وتدعو الله في صلاتها أن يزول المرض عن جسدها، وكانت حريصة على تناول أدويتها، وبعد شهور بينما كانت مستلقية ترسم حلم الشفاء السعيد في وجه الليل بألوان التفاؤل أخذت تبكي لشوقها لوالديها فكانت تقول للنجمة: أخبري أمي وأبي إنني احتاج إلى حنانهما في هذا الوقت، فبين ألم الفقد والمرض ونور التفاؤل ارتسمت ابتسامة جميلة على محياها عندما رأت نجمتين تلعبان في السماء وكلاهما يلحق بالاخر فأخدت تشير إليهما بأناملها النحيلتين فكل ما في الطبيعة يبث فيها الأمل والسعادة، فكانت تصحو وتشم رائحة الصباح العطرية بروحها الجميلة يساعدها (جوزيف) ابن عمتها الذي كان يعتني بها كثيرًا ويرافقها في جولاتها ويلعبان معًا ويساعدان العمة في قطف الثمار .. وفي المساء تكون في حضرة فخامة الليل المخملية تتلألأ النجوم فيها وتتأرجح أقفاص الورودفي مملكة الطيور المعلقة بأغصان القمر.
مضت الشهور و(جوزفين) تحلم بالشفاء.
فكانت المفاجأة عندما ذهبت (جوزفين) الى المستوصف ليعانقها الطبيب (اكسندر) وعيناه مغرورقتان بالدموع، الحمد لله لقد حدثت المعجرة.. لقد تخلصتي من مرض السرطان يا ابنتي.. سيعود شعرك الطويل للنمو وستضخ دماء الشفاء في عروقك من جديد.
كانت فرحتها كبيرة، فلقد أيقنت (جوزفين) أنه لابد أن لانستسلم للمرض مهما كانت المعاناة، وأن نتجاهله وننشغل بجمال الطبيعة من حولنا، وأن ندعو الله بالشفاء ونأخذ بالأسباب، فلا يهزمنا المرض، فإرادتنا عملاق سيهزمه مهما بلغت قوته.