لا للتفكير خارج الصندوق
بقلم : جمال النوفلي
لا أذكر بالضبط متى كانت أول مرة لي سمعت فيها هذه الكلمة: التفكير خارج الصندوق، أظن والله أعلم عندما خدعت ببرامج التنمية البشرية والمدربين الدوليين الذين كانوا يسحروننا بكلامهم المعسول وأفكارهم الجذابة وأسلوبهم الواثق الذي كان يشعرني أنه اذا ما طبقت ولو جزءا واحدا مما يقولون فقط فسوف تحقق كل أمنياتي وألاقي جميع أحلامي.. ، في تلك النزقة الكبيرة بدورات التنمية البشرية أظنني سمعت هذه الجملة ( التفكير خارج الصندوق) وكانوا يكتبونها هكذا بخط لامع عريض في شاشة العرض في الحائط وباللغة الانجليزية ( thinking outside the box) وبعض المدربين يقرأها بالانجليزية مع ابتسامة ساخرة من غبائنا، أو ربما ابتسامة سعيدة بسبب المعلومة الجديدة علينا، لا أدري حقا هل هي معلومة جديدة على العمانيين، أما أنها معلومة جديدة علي أنا فقط..، ثم بعد ذلك رأيت الكثير من الناس يستخدمون هذا المصطلح، ليس في مواضيع التنمية البشرية فقط وإنما في المواضيع الادارية والأسرية أيضا، ففي العمل يقولون فكروا خارج الصندق، والاستشاريون الأسريون يقولون للزوجات المقهورات فكرن خارج الصندوق، والماليون يقولون للتجار فكروا خارج الصندوق، وصارت ( فكر خارج الصندوق) هي الجواب السحري لكل مشكلة تواجهنا، وصار الناس جميعهم يفكرون خارج الصندوق، ثم شاعت الكلمة بين الحكوميين أيضا والمؤسسات الحكومية وعلى مستوى عال من السياسيين والمجالس البرلماينة، سمتعهم بنفسي يقولون فكروا خارج الصندوق، وعلينا أن نفكر خارج الصندوق حتى نخرج الدولة من مشاكلها، كان هذا الحديث في بداية الأزمة المالية ٢٠١٧ .. ، لكنني يا أعزائي القراء لم أر أي تقدم أو تطور في كل المستويات جاء نتيجة التفكير في الصندوق، بل رأيت بعض التجار يزدادون ثراء وبعض المؤسسات الرأسمالية تتضخم بشكل مضاعف جدا، بينما لاحظت أن الدولة يتضاءل اقتصادها يوما بعد يوم وتزداد مشاكلها، والشعب يزداد فقرا وهما وغما، والفكر والمعارف تتراجع، والمؤسسات السياحية تغلق والخدمات السياحية تسوء، وأسعار الخدمات تزداد غلاء، والكهرباء والماء أصبح كالذهب، وأسعار البترول كالألماس، وانتشر الفساد والمحسوبية، وتسلطت اللبويات الهندية التجارة والعمالة وكل شيء، ونحن نظل نقول : يجب أن نفكر خارج الصندوق لكي نخرج من مشاكلنا، ثم ساء الأمر أكثر وأكثر وحل علينا كرونا ولم نعرف كيف نتعامل معه فطبق الحظر وأغلقت الأسواق فخسر التجار وتورط أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة فأغلقوا مشاريعهم وسرحوا عمالهم، فامتلأت السجون بالعمال وأصحاب العمل المدينين..
وقال الناس والمفكرون: على الحكومة أن تفكر خارج الصندوق ، والحكومة أخذت تفكر خارج الصندوق، ونحن فكرنا معها خارج الصندوق، والشعب جميعه شرع يفكر خارج الصندوق، فرأيناهم يبيعون في الشوارع ورأينهم يبيعون في السوشيل ميديا ويبحثون عن فرص في الخليج، وبعضهم ضاع مع الأفكار الوجودية والمذاهب الفلسفية، ثم رأينهم يفشلون في التفكير ويعودون إلى السجون.
لكن أحدا لم يفكر أبدا، لماذا لا نخرج من الصندوق وحسب، لماذا علينا دائما أن نفكر ونحن داخل الصندوق، ألم يأن الأوان أن نترك هذا الصندوق المهترء الذي أكله الفساد وضاق بمن فيه.. .
ألم يأن الأوان أن نتخلى عن الكثير من قيودنا العتيقة وأفكارنا التقليدية ومخاوفنا القديمة، لماذا نغلق على أنفسنا هذا الصندوق المغبر المظلم الصغير ونظن أن الدنيا يجب أن لا تتجاوز هذا الصندوق بينما نحن نعلم أن الله لم يخلقنا في هذا الصندق لكي نبقى فيه للأبد، لكنه خلق لنا الدنيا واسعة جميلة لكي نعيشها كلها ونتعايش معها، لكي نستفيد من تنوعها واختلاف طرقها ومذاهبها، لكي نتطور مع تطورها ونتقدم مع تقدمها ونتلون بألوانها ونزدهر بالسعادة العطرة مع ازدهار شعوبها المختلفة.
أنني أدعوكم في هذا المقال إلى الخروج من هذا الصندوق، لقد سئمت من التفكير خارجه، علينا أن نخرج من الصندوق..، أو على الأقل إن رأينا أحدنا يخرج من الصندوق أن ندعه يفعل ذلك فلعله يجب لنا الخير، كما إن خروجه إن لم ينفعنا بشيء فلن يضرنا إن شاء الله.. .
شكرا لكم .