عندما يطرق (نورسين) نوافذ قريتي
بقلم: سميحة الحوسنية
في ذاك الزمان الجميل، حيث النفوس المترفة بالقناعة وحب الخير هناك، حيث إطلالات الصباح وانعكاس الخصل الذهبية على صفحات الماء وأحاديث الجيران الشيقة وضحكاتهم التي تعلو تارة وتنخفض تارة أخرى وأصوات الحمام الزاجل الذي يرفرف ويقف على الجدارن الطينية التي تعبق بعطر اللبان والصمغ في ليلة شتوية تغطت فيها الآمال بأوشحة الليل القمرية.
فكان لحارتي إطلالات ساحرة من نافذة الصباح، حيث تتنفس المراكب من رئة البحر وترتشف النوارس من كأس الفجر قهوة الانتعاش لتبدأ يومها المفعم بالحياة برونقها الريفي .. فخطوات السحب تمضي مهرولة تسابق القوارب وتقبل أيادي الصياد المتعبة من تلاطم الأمواج بقطرات دافئة تسقط من عينيها الناعستين، فترسم البهجة على صفحات الماء.
يولد الفجر الجديد من رحم الليل الحالك طفلًا في المهد ملفوفًا بالضباب، يغفو على (منز من سحاب) تحركه أنفاس الحب وتوقضه أصوات النوارس ورقصات أجراس الخلخال، فتتعالى ضحكاته فتفعم صباحات المارة جمالًا وانسجامًا .. تمضي الزوارق الخشبية وقيثارة الريح تعزف على أشرعته الجامحة كخيول بيضاء تختفي في ديسق الفجر .. وتظل أصوات صهيلها تتردد في صدى اللحظات .. تستيقظ الورود وتقبل بعضها وتتعانق الأغصان، فتتراقص الكلمات الأنيقة على سطور الأوراق.
هي الحياة عندما تتنفس من رئة قريتي التي اختفت معالمها فتناثرت قصاصات الورق الوردية فوق سطوحها .. وبكت حكايات الأبواب الموصدة وتمزقت أوشحة الجدران والأسقف، فأصبحت كالصقيع باردة، فلا ألسنة الشمس تدفئها ولا لهيب القيظ المتقد، فالأرواح الدافئة غادرتها بلا موعد.
هناك أنين ونحيب لتلك الرسائل الحزينة التي كتبت بدموع الغربة والصبابة وختمت بالقبلات، ففي قلب كل صدفة أسرار لأصوات بثت أشواقها لأحبة غادرت السيف في رحلة الاغتراب، فكان الوداع على شاطئ قريتي الملتهب جمرًا يحرق الأصداف.
شموخ قريتي مازال في ذاكرتي، فأمتعة المغادرين مازالت بعضها تحت تلك الأكوام المتكدسة ألعاب الطفولة .. وعكاسة الحجاز مازالت ترصد الأحداث، وفي داخلها صور المقدسات مازالت ضفائر الصغيرات ودميتهن الحمراء .. ورائحة المحلب المنبعثة من جبهة جدتي يعانق طيبها تبر التراب .. وأطواق الياسمين العابقة تتناثر هنا وهناك.. بعد أن عطرت كفوف (بائعة الياسمين) بشيلتها السمراء التي كان أريج ياسمينها يسبقها بمئات الخطوات لتصل إلى قريتي في ليالي غاب فيها نورسين (ضوء القمر) فأضاءها ديسق الياسمين.
هي الذكريات وحنين يشدك إلى طرق الأبواب مجددًا في عالم الخيال والأمنيات، فتتمنى أن تناديك الأرواح فيها، فتأنس لحديثها.. فكم أبكى البحر مرور ذاك الرجل الحزين بعينيه المثقلتين بالدموع كأنهما صخور تتساقط من رحم الكهوف بعد أن فقد زوجته فانطمست معالم السعادة في داخله، ويردد الصدى عبارته كلما وقف على تلك الأكوام (راح بيت أم العيال) .. وآهات عائد من الغربة يستجدي قلوب المحبين، فلم يجد سوى نوافذ محطمة نسجت عليها العناكب قصة الوداع فكان الأنين وصرخات تحتضر في ساحة الانتظار.
مازالت قلوب المخلصين تشد الرحال لقريتي التي مازالت خالدة في ذاكرتهم وعلى شاطئ البحر يقصون أجمل القصص وذكرياتهم الماتعة في لعبة (الحواليس) ونداءات بائع الحطب والفندال وأصوات تنبعث من مذياع يلتقط الإشارة تارة ويفصل تارة أخرى لسماع الأخبار، ومتعة مشاهدة التلفاز للنساء والرجال في زمن الأبيض والأسود وتلك الخطوات السريعة التى تسابق عقارب الساعة لتعبئة بطاريته لإطالة وقت المشاهدة والاستمتاع.
وتلك التجمعات العاطرة للنساء في فترة المساء على بساط الذكريات وروعة الصباح عندما يتناول إفطاره من خبز الأمهات برائحته الزكية .. وأصوات الأذان من تلك الأفواه العطرة .. انطوت صفحات ذاك الكتاب ليبقى الكثير منها يروى في لحظات الحنين والشوق للقرية التي اختفت معالمها على الخارطة لتكون المدينة الحاضرة بكل تفاصيلها والقابعة في عمق محيط الذاكرة.
عندما يطرق (نورسين) نوافذ قريتي .. تفيق الأرواح النائمة من على أسرّة الزمن الجميل.. وتظهر معالم البيوت المتهالكة المحطمة فتدب الحياة فيها، فنستمد من تلك اللحظات قوتًا وزادًا لأيام جافة.. أتعبنا فيها صقيع الحنين .. فسلام لتلك الأرواح الطيبة التي غادرتنا روح وريحان وجنات النعيم.. وللأرواح التى مازالت في محطات الحياة باقة أكسجين وردية معطرة بروائح الزمن الجميل.