فاحتمل السيل زبدا رابيا
نشر الدكتور سيف الهادي مقالاً في حسابه الخاص بالفيس بوك ونقلت “وهج الخليج” نصه :
آن لنا أن ندفع زبد الجاهلين، فقد تعاظم حتى صار غثَّا، ففي ساحات الحوار المقنع حرية تسمح للغو أن ينال من الله، وتفتح للرئات المتهرءة مسالك للشاهقين. لم يكن لهذه النفوس مَثَل سوى الصخب الباخي عندما كانت بعض الشعوب تعبر عن حريتها بسب الدين، وتجمع الرجال والنساء للرقص الصاخب دون حواجز أخلاقية حتى قبيل الفجر، وعندما قررت بعض الشعوب المتأخرة أن تبحث في صفحات التاريخ عن أمثال هذا الجنون؛ جعلت منه علامة على موت الإله.. هكذا قال نيتشيه في التراجيديا عندما دعا إلى العبادة الدينسيوسية الباخية حتى تكون للإنسان حرية ترفع عن ذاوتهم سلطة الدين والعقل والأخلاق، وتسمح للمرء أن يرقص على أنغام موت الإله ” على المرء أن يمتلك الفوضى في نفسه لولادة النجم الراقص” ولا تزال هذه القميئة الأخلاقة تعبر عن سخطها الدفين، وتشرح في صفاقة كيف يكون الإنسان قادرا على سب الله دون خوف من عقاب أو قوانين، كيف لا وكل من يتعدى على هذه الحرية رجعي يعيش زمن الغابرين.
قبل أيام قلائل تأسست ساحة حوارية على تويتر تبدأ عنوانها بالتجرؤ على الله وكتابه المبين؛ غاية لا تقف في سبيل تحقيقها أي وسيلة، فالهدف المنشود هو كسر حدة الخوف من مناقشة المسلمات، وجعل المقدسات جثثا مهيئة للتشريح، واستدعاء شخصيات جدلية لا تمانع أن تكون مركوبا وثيرا للآثمين، وإن بدا أنها تلبس ثياب الدين، فالهدف البرئ هو نشر الوعي ومناقشة المسلمات وتصديع جدارن القطعية !!. ولكن مهلا .. ليست “القطعية” فهي كلمة عربية مبتذلة، إنما “الدوغمائية” فهي أقرب للنتشويين الأبرار، أما الأعراف البشرية وقوانين الدول فضلا عن الموقف الشرعي فهي إحدى المعوقات والإغلال.
أطلق الممثل الكميدي الإمريكي بيل مار هذه العبارة ” وبعد أن قتل الله الجميع في قصة نوح، تكتمل خطته العبقرية بخلق نفس الأوغاد الذين قتلهم؛ ليقوموا بإفساد الأمور من جديد ” فسارعت هذه المساحة الحوارية إلى جعلها شعارا لحرية الحوار، وأن ما نعتقده نحن المسلمين جزء من أساطير هوميروس، وأن الطوفان لعبة إلهية تشرح مسلسل صراع الآلهة والبشر عند هيسيود، ورغم أن الحوار لم يناقش هذه العبارة المأثومة إلا أن الذين أطلقوها مزراعون ينتظرون ثمارها في شغف وهم صابرون.
عباراة ساخرة واستبداد رمزي يتسلل في خفة إلى منطقة اللاشعور حسب نظرية فرويد.
إن الاستهزاء بالله ورسوله محرم شرعا ومجرم عند عقلاء البشر، وقد أمر الله تعالى المسلمين أن لا يسبوا الكفار، ليس لأن آلهتم حقيقة بالاحترام ولكن حتى لا تتملكهم جرءة سخيفة فيسبوا الله عدوا بغير علم ” وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”
ورغم أن العراك بين الحق والباطل قد يفقد شعور المرء أحيانا فيندفع إلى السب دفاعا عن الحق، إلا أن الله لا يريد من المسلمين أن يكونوا ذريعة لهذا الهبوط الأخلاقي الحاد .. ومن أجل تجفيف منابع الانفعال والخروج عن السيطرة الأخلاقية أمر المسلمين أن لا ينضموا إلى جلسة يستهزء فيها بالله ” وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” مواقف أخلاقية ليس لها نظير.
ويمكنني في عجالة أن أحلل الدلالات الرمزية لهذه العبارة في نقطتين، يكون الذي بعدها تبعا لها:
– أولا: أنها علامة على أمر مقصود، إذ لا يمكن وضع احتمال ساذج بأن مثل هذه العبارة الخطيرة جاءت اعتباطا، وهذا يعني أنها مقصدودة للنفاذ إلى منطقة اللاشعور المعرفي ليتم تعزيزها لاحقا بتكوينات الإتاحة المتواصلة في هذا المجال .. وهو ما تتم ملاحظتة من كثر العمليات المتواصلة في الاستهزاء، لقد بات المجتمع يوميا ينظر إلى هذه العلامات، ويندهش من وجودها وجرءة أصحابها. ماذا يريد هؤلاء؟ كسر الخوف ونزع منطقة الأمان. لقد قال براتراند راسل في كتب متفرقة أن الخوف من نزع منطقة الأمان هو الذي يمنع الناس من نقد الدين والدعوة إلى إقصائه .. لكن ذلك لا يعني مزيدا من الحرية والاستقرار إنما مزيد من الفردانية والفوضى.
– ثانيا : هذه الخطة المكشوفة تستهدف منطقة اللاشعور بطريقة النفس الطويل فبحسب مدرسة التحليل النفسي فإن اللاشعور يمثل الهيمنة الأكبر على منطقة التفكير، ولسوف يسدد في يوم من الأيام – وإن طال الزمن – ضربة قاسية إلى الوعي الشعوري، ما بات يعرف اليوم بالعقل الواعي.. يعني ما يريده هؤلاء هو أن النفس تدريجيا ستتقبل مضامين هذه العبارات وستبدأ في مراجعة قناعاتها عن الذات الإلهية، وستقبل لاحقا الطعن فيها والاستهزاء بها دون وخزة من ضمير، عندها يمكن للإنسان أن يعيش بلايقين وبلا خوف من اللايقين.
– ليست هذه حرية فكرية لأن الفكر من التفكير، واعتماد المعايير العقلية في معرفة المجهول التصوري، أما هذه فلا تعتمد الحجة ولا البرهان إنما تكتسب قوتها من زخرفة البيان” يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ” فالقوة الضاربة ليست هي العقل فقد تم إقصائه لصالح الذات، إنما كسر المنظومة الأخلاقية الموروثة، وتحطيم القيم الإيمانية الصلبة، والتماس السعادة في مصارع الألم والعذاب. وقد تحول العالم بالقيادة الغربية إلى هذا الفن التراجيدي للحياة منذ مدة، فليس غريبا أن يفوز فيلم ” الجوكر ” بجائزة الأوسكار أكثر من مرة، لأنه يصنع الشخصية التي تحقق ذاتها بأي وسيلة “وتمارس إرادتها من ذاتها بعيدةً عن تسلط المفهوم الجمعي والأفكار والأخلاقيات المربوطة بالدين أو القانون” ، ليس في جعبة هذه المحاولات سوى السعي الحثيث في تفيت الأعمدة الصلبة لهذه البلاد، وقد بدأ النحت مبكرا في التاريخ والرموز والمرجعيات، وهاهي اليوم تتسلل المحراب وتقتحم على الآمنين حصن المقدسات أغلى ما يمتلكه الإنسان، وليس بعد هذا سوى فوضى مائعة لا تعترف بدين ولا عقل ولا أخلاق.
– الممثل الكوميدي الإمريكي بيل مار من دعاة زواج المثليين وشرب الماريجوانا ( أحد أنواع المخدرات ) ولعب القمار.. أما نوح عليه السلام فقد دعا إلى عبادة الله والتذكير بعظمته، ورحمة الضعفاء، والالتزام بالأخلاق. ورفض أن تبرر الغاية الوسيلة، وأخبر قومه أن الناس سواسية لا فضل لطبقة على أخرى، وأن الذين آمنوا بالله لا يمكنه أبدا أن يتخلى عنهم أو أن يسلمهم للطاغين، وأن عدالة الله يجب أن تنال الجميع.
وقال لأصحاب هذه المساحات الحوارية: ” يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ ”
أظن أنه حان الوقت للمجتمع أن يفهم أن هذه المحاولات ليست عادية، ولا تندرج ضمن سياق الحرية الفكرية، وما يتكأ عليه بعضهم أنها مكفولة في دولة المؤسسات إنما هو في الحقيقة سعي لنزع منطقة الأمان عن الدولة نفسها، وإذا كانت فكرة المؤسسات هو شد المواطن إليها من الاقتصاد إلى حياته اليومية، فإن استثناء مقدساته من الحماية يعني أنها منقوصة الحقيقة والأطراف.
لم يضرب الله لنا نموذجا أعظم من سبأ عندما انتفض الهدهد هو يحلق فوق سماء حضارة مادية أوتيت من كل شيء، لكنها وا أسفاه تسجد للشمس من دون الله، وتجاهلت تحت وقع الشهوات قدرة الله : ” أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ” لكن هذه البلاد آمنت لاحقا فانشقت في أرجائها جنة الله .. ثم نسيت بعد حين وتجاهلت هذا النداء” كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ”. وأي شكر يبقى لله وقد قررت هذه المساحات الصوتية أن تقول: مات الإله .