هي المعجزة الباقية
بقلم:شريفة التوبي
كنت أظن أن تربية الأبناء تقتصر على تربيتهم والاعتناء بهم وهم صغار، وكنت أظن أن ذلك الخوف والقلق الذي كنت أعيشه على أبنائي قد يقل أو تخفّ حدّته ما أن يكبرون وأكبر، وكنت أظن أن لهذا القلق آخر ومدى، وأن في مرحلة قادمة سيبرد القلب وتهدأ النفس بعد سنوات من الانشغال والقلق على كل ما يتعلق بهم، نومهم، صحوهم، أكلهم، شربهم، دراستهم، صحتهم، مرضهم، لعبهم…. إلخ.
كنت أظن أني سألقي عن كاهلي عبء أن أهتم وأفكّر وأقلق و(أحاتي)، كنت أظن أني سأنام بملء عيني لمجرد أن ابني تجاوز مرحلة الطفولة، فما عاد هناك ما يدعوني للسهر أو يُصيبني بالأرق، فالطفل الصغير الذي كان يسرق النوم من عيني قد كبر وأصبح رجلاً، لكن ذلك لم يحدث، فالقلق عليهم كان يكبر كما تكبر محبّتهم في القلب، وأن ابني الذي صار رجلاً ويرى نفسه كبيراً بما يكفي أن يتحمّل أمر نفسه، ما زال طفلاً في عيني، ولا تملك هذه العين إلا أن تظله برمشها أينما كان.
وأنا أعيش هذا القلق الغريب والمضاعف تذكّرت أمي التي ما زالت تقلق علينا حتى بعد أن كبرنا وكبر أبناؤنا معنا، وأصبح كما أظن أنه لزام علينا أن نقلق نحن عليها، تذكّرتها حينما تتصل قلقة فزِعة إذا انتصف النهار ولم تسمع صوتي، فأعاتبها على ذلك الخوف الذي يأخذ من صحتها، لكنها تقول (فؤاد الوالدة تعيب)، تذكّرت ذلك الخوف في صوتها وعينها، والذي كنا نراه مبالغ فيه فنلومها وقد نضحك ونمازحها بأنه ما عاد لذلك داع وسبب، فنحن كبرنا، وما كنت أفهم يومها أن تلك هي فطرة الله في قلبها وطبيعة الأمهات التي لا تتغير.
أدركت الآن معنى القلق الذي تعيشه أمي والذي أعيشه اليوم في هذه المرحلة من عمر أبنائي، بكل متعته وعذابه، حيث لا شيء سوى هذا الحُب، ما يستحق أن نحيا لأجله والذي يجعل للحياة معنى وقيمة، فلا حُب في هذه الدنيا يعادل حُب الأمهات، ولا عاطفة أصدق من عاطفتهن، إنه الحُب الذي مهما بحثنا عنه في دروب الحياة وقلوب الآخرين لن نجده إلا عند أمهاتنا ولا يمكن أن نعطيه بكامل مصداقيتنا وإخلاصنا إلا لأبنائنا، إنه الحب الذي يكبر فينا ويكبر معنا، الحُب الذي يجعلنا الأجمل بين مخلوقات الله.
ومع هذا الحُب الذي أحياه أدركت أن المرحلة الأصعب في علاقتي مع أبنائي ليس تربيهم وهم صغار، بل قلقي عليهم حينما يكبرون، وحينما يخرجون للحياة، وحينما يبدءون بالانفصال عني وأنا أسلّمهم للدنيا ولست آمنة عليهم منها، إلا بما زرعته في نفوسهم من إيمان وقيم وأخلاق ومبادئ، وما وضعته في قلوبهم من حُب كبير لا تستقيم حياتهم إلا به.
إن هذا الحُب الذي يسكن قلوب الأمهات لأبنائهن والذي يولد قبل ميلادهم وهذه العاطفة الصادقة التي تلغي كل ما قبلها وما بعدها هي المعجزة الباقية على هذه الأرض في زمن بلا معجزات، وما حظ المرء وتوفيقه ونجاحه إلا بأمه.