مدرسة السياسة الخارجية العمانية
بقلم: لارا ابراهيم
ان فهم ما تقدمه السياسة الخارجية العمانية من دروس للعالم يعني فهم عمل الدبلوماسية الماهرة في منطقة مشتعلة بالأزمات. السياسة الخارجية العمانية تعني التسامح تجاه الاختلافات والبحث الجدي عن المنافع المتبادلة والبقاء بعيدا عن الصراعات في حين أن الدول الأخرى في الشرق الأوسط مدفوعة بالأيديولجيا والمكاسب قصيرة الأجل. لطالما كان للسلطنة ومسارها الخاص في السياسة الخارجية وهو ما سوف يسلط هذا المقال الضوء عليه.
تبلورت السياسة الخارجية العمانية على مدى العقود الخمسة الماضية لتشكل لها خارطة سير واضحة المعالم عبر تنفيذ سياسة خارجية فريدة من نوعها نظرا لأنها تتسم بالاعتدال والبراغماتية والاستقلال وعدم التدخل في شؤون الغير مع عدم السماح للغير بالتدخل في الشؤون الداخلية والسيادة لعمان. بدأت هذه السياسة تتخذ الشكل المراد لها بعد استلام السلطان قابوس مقاليد الحكم في 23 يوليو من العام 1970 ليبدأ مع ذلك عهد النهضة الذي اتسم بإصلاحات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مستمرة حتى وقتنا هذا.
مع بداية عصر النهضة دخلت عمان مرحلة جديدة في تاريخها على جميع الأصعدة ومختلف المستويات سواء على الصعيد المحلى أو على الصعيد الخارجي. كانت البداية مع سعي السلطان الراحل إلى مد جسور العلاقات مع مختلف دول العالم عن طريق سلسلة من الإجراءات. كان منطلق السلطان قابوس في رسم ملامح السياسة الخارجية العمانية أن عمان دولة ذات تاريخ إنساني عريق بالإضافة إلى موقعها الإستراتيجي الذي ساهم كثيرا في لعب دور حضاري في عمر البشرية والعلاقات التجارية، حيث يؤكد بعض المؤرخون أن الموقع الجغرافي هو بمثابة رأس مال طبيعي وسياسي. عمل السلطان قابوس على إعادة ترسيخ دور عمان كلاعب إقليمي نشط من خلال إعلان انتهاء فترة العزلة السياسية وبداية عصر التفاعل السياسي.
مراحل تكوين السياسة الخارجية العمانية:
لم يكن قبل ال 1970 ما يعرف بالسياسة الخارجية بمفهومها المطلق والمركزي حيث بدأت المرحلة الأولى من 1970 واستمرت حتى 1975 وكان التركيز خلالها على إخراج سلطنة عمان من العزلة السياسة التي كانت قبل عصر النهضة وكللت هذه المرحلة بمجموعة من الإنجازات أهمها انضمام عمان إلى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
أما المرحلة الثانية فقد امتدت من 1976 إلى 1980 ومن الممكن اطلاق عليها مسمى مرحلة “التوسيم” وخلال هذه المرحلة كان التركيز على بناء صورة ذهنية ايجابية عن عمان لدى بقية دول العالم وذلك من خلال الدبلوماسية العمانية كقوة ناعمة والعلاقات الدولية وقد لعبت قنوات الإتصال المتوفرة في ذلك الوقت دورا كبيرا في نقل صورة واضحة المعالم عن السياسة العمانية خاصة من خلال المؤتمرات العالمية والخليجية. كان التركيز في هذه الفترة على ترسيخ صورة ذهنية مختلفة منها التأكيد على الهوية العمانية بإعتبار أن سلطنة عمان جزء لا يتجزأ من العالم العربي والإسلامي. أما الصورة المهمة الثانية فكانت أن السياسة الخارجية العمانية هي سياسة مبادرات مواقف ولا تنحصر فقط في ردود الأفعال بل هي سياسة الفعل ورد الفعل. توجت هذه المرحلة بالعديد من المنجزات منها الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي عام 1980.
المرحلة الثالثة هي ما يمكن أن يطلق عليها مرحلة النضج وهي المرحلة من 1981 حتى 1985 وخلال هذه المحطة عملت السلطنة على التوفيق بين الأطراف المتصارعة ودعمت مبادرات السلام في الشرق الأوسط عام 1983 ولقبها الخبراء السياسيون الغربيون بألقاب مثل “سويسرا الشرق” أو “نرويج الخليج”.
المرحلة الرابعة وهي من 1986 حتى 1990: تمسكت سلطنة عمان خلال هذه الفترة بالإتجاه الداعي للحياد ولإقامة حوار إيراني خليجي يهدف إلى وضع أسس تقلل المخاطر بين جانبي الصراع في الحرب الإيرانية العراقية وكللت هذه المساعي الحميدة في اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1988 برعاية الأمم المتحدة ووقف إطلاق النار يتميز عن الهدنة بكونه لا يتضمن عادة شروطا ذات طبيعة سياسية أو عسكرية وانما يقتصر على وقف الأعمال القتالية بشكل مؤقت وفي إطار نطاق جغرافي محدد.
منطلقات السياسة الخارجية العمانية:
بنيت السياسة الخارجية العمانية على قاعدة صلبة عملت منذ الوهلة الأولى على تحقيق حياة أفضل للشعب العماني وكان لهذه السياسة العديد من المنطلقات أولها أهمية تحقيق السلام والاستقرار على الصعيد الإقليمي والصعيد الدولي أيضا من منطلق أن السلطنة دولة سلام واستقرار. السلطنة دولة لا يوجد لها أعداء وترغب في مد جسور الصداقة مع بقية دول العالم.
المنطلق الثاني هو منطلق انتهاج مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين ورفض تدخل الآخرين في شؤون السلطنة مع بناء العلاقات على قاعدة المصلحة المشتركة.
سياسة النأي بالنفس عن الصراعات والسعي إلى احتواء الأزمات الحاصلة بين الأطراف الدولية مما جعل الأطراف المتمرسة في السياسة العالمية الخارجية يلجؤون إلى مسقط لحل الأزمات نظرا لأنهم يثقون في النية العمانية الصادقة في حل الأزمات وإعادة إحياء السلام فالسلطنة تؤمن أن الصراعات السياسية تعطل مسيرة تنمية الدول وتنعكس سلبا عليها.
كما ارتكزت السياسة الخارجية العمانية على مبدأ احترام الدول الأخرى ومراعاة المواثيق والمعاهدات والإلتزام بقواعد القانون الدولي.
مواقف سلطنة عمان من الإرهاب والتطرف:
يوجد إجماع دولي على استشعار مدى خطورة الإرهاب وتأثيراته الكارثية التي تجاوزت النطاق المحلي والإقليمي وبات الإرهاب ظاهرة عالمية عابرة للقارات تهدد أمن المجتمع الدولي. كان لدول الخليج اهتمام كبير بمكافحة الإرهاب في ظل ما تواجهه المنطقة العربية من تهديدات شرسة. في هذا الإطار شاركت السلطنة في دعم جهود ومبادرات دول المجلس التعاون الخليجي المتصدية لهذه الظاهرة المريرة.
مسقط العاصمة كانت الحاضنة لإعلان دول مجلس التعاون في مسقط لمكافحة الإرهاب وذلك في شهر أكتوبر من العام 2001. كما كان توقيع الإتفاقية الأمنية الخليجية المشتركة لمكافحة الإرهاب عام 2004 خطوة جيدة في مقاومة الإرهاب.
لطالما دعت السلطنة إلى تظافر الجهود العالمية في سبيل مناكفة التطرف والإرهاب الا أن العوامل التي ساهمت في عدم تعرض السلطنة للعمليات الإرهابية لم تكن تندرج تحت السياسة الخارجية فقط وإنما الداخلية أيضا. الإرهاب هو عدو البشرية جمعاء في حين أن عدو الإرهاب هو الوعي والتعليم والتسامح وهو ما عملت سياسة السلطنة الداخلية على غرسه في الشعب العماني مع منح اهتمام متواصل ومتعدد الجوانب بالشباب العماني . حيث كان الاهتمام بالتعليم جليا منذ بزوغ تباشير فجر عصر النهضة بالإضافة إلى تجريم الممارسات المجتمعية ذات الطبيعة المذهبية في قانون الجزاء العماني فتجربة السلطنة في التسامح الديني ليست وليدة اليوم. كما أن سياسة السلطنة في النأي بالنفس عن الصراعات ومبدأ عدم الإنحياز لطرف ما جعلها بعيدة كل البعد عن الاحتقانات التي تستمد منها التنظيمات الإرهابية قوتها.
جهود السلطنة في مكافحة الإرهاب كان لها نتائج ملموسة عديدة منها حصول الأخيرة على درجة “صفر” في سلم المؤشر العالمي للإرهاب وهي الدرجة التي تمثل ذروة الأمان من التهديدات الإرهابية عام 2015. أشار هذا التقرير إلى عدة نقاط لعل أهمها أن العمانيين منشغلون ببناء أمتهم بعيدا عن النزاعات المستنزفة.
ويبقى التفرد في السياسة الخارجية العمانية بين كثرة من يقرعون طبول الحرب وندرة من يجيدون لغة السلام وفنون الدبلوماسية!
كاتبة تونسية