اعطوا الفقراء أموالكم
بقلم: كمال الفهدي
حين انهار الاقتصاد العالمي في عام 2008م تظاهر الأمريكيون في شارع (وول ستريت) وتظاهر الملايين من الناس معهم بقلوبهم، لماذا لم يتظاهروا في ساحة البيت الأبيض؟! أو قريباً من تمثال الحريّة؟! تظاهروا هناك لأن مشكلتهم مع ذلك الشارع بالتحديد، إنه شارع المال والأعمال الذي تجبى إليه أموال الدنيا.
إن النقد العالمي تصدره البنوك في سويسرا أو الولايات المتحدة، ثم يوزع على العالم فتأخذه الحكومات وتطرحه في الأسواق للتداول، فيأخذ الجميع حصته من هذا النقد، وبعد أن يصل النقد إلى كل الأيادي تبدأ عملية استرجاع النقد، كأن البحر قد ألقى بأمواجه إلى أبعد مسافة ليعود من جديد في عملية متكررة تسمى (المدّ والجزر)، وأول من يُسحب منه النقد هم الفقراء، لأن نقدهم هو الأسرع نفاداً، ثم تبدأ النقود تعود تدريجياً إلى مصادرها الأصلية، وبالتحديد إلى بنوك سويسرا أو إلى (وول ستريت) لتكنز أو ليتنعمّ بها المترفون، وكلما عصفت أزمة اقتصادية بالعالم رمى الأغنياء حفنة منه على العالم ليعلق عرق الفقراء وأحلامهم على كل دولار يعود إلى خزانة (وول ستريت)، ثم يقال للفقراء: أنتم المسؤولون عن فقركم، ولو أن الأغنياء نظروا إلى فقر الفقراء من الجهة الأخرى لرأوا أن الغنى الذي يعيشون فيه كان بسبب هؤلاء الفقراء، كيف؟! هذا ما سأحاول الإجابة عليه في السطور القادمة بإذن الله.
ليس عيباً ولا جريمة أن تكون غنيّاً تتمتع بالمال كيف تشاء، ولكن العيب أن لا تعرف سبب غناك وأن لا تكون ممتناً لذلك السبب، إن السبب الحقيقي في غنى الأغنياء هم الفقراء، فالفقراء هم المستهدفون دائماً بكل المشاريع التي تدرُّ ربحاً كبيراً وسريعاً ـ وبالمثال يتضح المقال ـ فلو أراد مالك نادٍ لكرة القدم معالجة مشكلة مالية يسيرة تعيقه عن شراء لاعب ما، فما عليه إلا أن يتصل برئيس نادٍ آخر ويتفق معه على إقامة مباراة ودّية في إطار الاستعداد للدوري، ويرسل للريح إعلاناً بموعد المباراة وبقيمة التذاكر بدرجاتها المختلفة، ولن يحتاج الأمر إلا لتسعين دقيقة من اللعب لجني مال طائل، إن الفئة التي ستحضر بكثرة هي فئة الفقراء المتحمسين للنادي والفئة المتوسطة وقليل من الفئة المترفة، هذا الأمر ينجح كثيراً ودائماً ويمكن تطبيقه في أي زمان ومكان، ولا مشكلة في ذلك فالفقراء اشتروا مشاهدة المباراة بثمنها، ولم يقترف مالك النادي أي جرم يُذكر، لكي لا يتوهم الناس أننا ضد هذه الطريقة في جني المال، فالفقراء هم أيسر وأسرع الطرق لتكوين الثروة عند استهدافهم بالخدمات.
لا نريد للأغنياء والتجّار أن يتوقفوا عن أعمالهم التي تقدّم خدمات للناس مقابل أجر مادي، بل المطلوب هو إعانة الفقراء على تدوير المال، وأن يحرص الأغنياء على وصول الدولارات إلى أيادي الفقراء، لأن ذلك هو الضامن الوحيد لاستمرار عجلة تدفق الأموال لكل الطبقات خاصة الأغنياء، ولأن إعطاء الفقراء قدراً من المال سينعش كل المشاريع الحالمة التي تخدم الأغنياء بالدرجة الأولى، والطرق الممكنة لذلك كثيرة ما على الأغنياء إلا أن يعصروا أذهانهم ليخرجوا بأفكار تعينهم على ذلك، ومن الطرق الممكنة:
1- أن تتنازل الدول والحكومات الغنيّة عن قيمة بعض الثروات المستخرجة من الأرض وتزيد من حصة ساكني تلك الأرض، وسيعينها ذلك على رفع مستوى الدخل الفردي والقدرة الشرائية لدى المواطنين ما يضمن لها الإبقاء على التوازن بين ما يخرج من الأرض وما يهبط إليها من المشاريع، بمعنى أنه كلما ازداد دخل الأفراد احتاج الأغنياء لبناء المشاريع التي يمكنهم من خلالها اقتناص الدولارات الموجودة في أيدي الفقراء، وهذا الأمر يعود بالنفع للجميع، يعود بالنفع للحكومات بالتمدّن والتحضر والعمران، ويعود للأغنياء بكسب المال الوفير، ويعود للفقراء بتوفر الخدمات والطعام والشراب والترفيه.
2- فرض الضرائب على الأغنياء دون الفقراء، هذه الضرائب تكون معقولة من حيث القدر، معلومة من حيث الهدف، فالهدف منها لا بد أن يكون ليس للمشاريع التنموية وحسب، بل ينبغي أن يوزع قسم منها على الفقراء يعطوا إياه في أيديهم أو يرسل إلى حساباتهم المصرفية، لأنهم يمثلون الأكثرية في العالم أجمع، وإذا كانوا كذلك فإن أي مشروع يستهدفهم بالذات سيكتب له النجاح بلا شك.
3- زيادة الرواتب، نعم زيادة الرواتب حتى لو كان الاقتصاد يعاني المشكلات، فالحكومات التي تعي أن الفقراء والطبقة المتوسطة هم من يحرك عجلة الاقتصاد لا بد أن تفكّر في اللامُفكر فيه، زيادة الرواتب التي أقصدها هي التي تكون بنسب معقولة تحفظ التوازن بين الوظائف ودرجاتها، وعند ذلك سيفكر الموظفون بشراء وبناء المنازل وهي فائدة عمرانية، ويفكرون في المشاريع المتوسطة والصغيرة التي إذا نجحت ستكون مشاريع كبيرة يوماً ما، وهذه فائدة اقتصادية، وسيفكرون في تكوين الأسر، وهذه فائدة اجتماعية، وغيرها من الأمور، وعلى الحكومات ألا تقلق فإن كل دولار تنفقه للناس سيعود إليها أضعافاً مضاعفة، كما يجب أن تعلم الحكومات أن الأموال التي تذهب للمترفين لا تعود أبداً.
4- على الحكومات المتدينة أن تعي أن الأديان جاءت لكل الناس ولكل الطبقات، وعليها أن تركزّ جهودها الدينية بالوعظ والتذكير على فئة الأغنياء، وأن تخفف الحمل عن الفقراء قليلا وتصبه على الأغنياء، وعليها أن تسلك كل طريق مشروع يوصلها إلى إقناع الأغنياء بضرورة الأخذ بيد الفقراء، وتقنعهم بأن السعادة الدنيوية والأخروية لا تكون إلا عبر هؤلاء الفقراء، فإن أفلحت في إقناع الأغنياء بإعطاء الفقراء أموالهم بسلامة صدر، فستنعش الاقتصاد وتقدر على خدمة الناس كما ينبغي أن تكون الخدمة.
إن إعطاء الفقراء الأموال ليس ترفاً أخلاقياً، بل هو ضرورة لاستمرار الحياة الإنسانية، ولننظر إلى سياسة العالم خلال آلاف السنين بكنز المال واحتكاره في الطبقات المترفة، ماذا جلب للإنسانية غير الجوع والمرض والحروب والدمار والموت، ولننظر إلى الفترات القليلة في الزمان التي بزغت فيها شمس التكافل الاجتماعي ومناولة الفقراء المال، فقد ازدهرت الاقتصادات واختلف تفكير الناس، بدل أن يركزوا تفكيرهم على الطعام والشراب والستر، انطلقت بهم الهمم إلى التفكير في مشاريع تخدم الإنسانية وتعمر الأرض وترمم الخراب وتنهض بالبشرية، ويمكن اختزال تلك الفترات في مصطلح (العدل الاجتماعي) الذي كلما انتشر بين الناس رأينا حضارة وعمراناً وصحة وازدهاراً.
لا يمكن التعويل على المبادرات الفردية من أجل إصلاح ما دمره الجشع العالمي، لا بد لكل حكومة أن تفرض الإجراءات التي تتوافق مع دينها وجغرافيتها وطبيعتها الاجتماعية لتصل إلى الغاية الكبرى وهي الانتعاش الاقتصادي والاستقرار والاطمئنان على الحاضر والمستقبل، ففي فرض الإجراءات ضمان للوصول إلى الهدف، وضمان لوجود المراقبة والمتابعة لتطبيق الإجراءات.