فيروس كورونا وتغير المعادلات في المنطقة
بقلم:جمال الكندي
رسم المعادلات السياسية والعسكرية والاقتصادية في التاريح السياسي الحديث للدول يبنى على أسس استراتيجية تحول مسار العالم، فتشكل عبرها كتلاً اقتصادية، وسياسية، تحميها منظومة عسكرية، وهذا التحول الاستراتيجي في العالم عرف بعد الحرب العالمية الأولى والثانية.
هذه الحروب العسكرية المباشرة شكلت النظام العالمي الجديد ما بعد الحربين فانهارات إمبراطوريات وتشكلت دول منها،وظهرت النزعة الاستعمارية التي تمثلت في بريطانيا وفرنسا تحت ذريعة (الانتداب).
بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء فترة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي السابق تشكل في العالم معسكران “شرقي وغربي”، وكان لهما حلفان عسكريان هما ” الناتو للمنظومة الغربية بقيادة أمريكا، وحلف وارسو للمنظومة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، بينما (دول العالم الثالث) وهي تسمية غربية توزعت تبعيتها لهذا المعسكر أو ذاك وأخرى وازنت بينهما.
هذا النظام العالمي ذو القطبين تغير بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار “برلين” وتشكل نظام عالمي جديد بنظرة أمريكية رأسمالية متوحشة تعتمد على قوتها العسكرية ،هدا النظام ذو القطب الواحد استمر لأكثر من عقدين كانت نتائجه احتلال أفغانستان، والعراق وتفكيك دول منظومة حلف وارسو القديم . طبعاً هذا النظام ذو القطب الواحدة كان يواجه دولاً صاعدة تحاول تشكيل نظام عالمي جديد خارج المنظومة الأمريكية له نظرة اقتصادية وعسكرية وسياسية مختلفة عن القطب الرأسمالي الأمريكي، وأهم هذه الدول هي الصين ورسيا والهند وإيران .
جائحة “كورونا” هي المنطلق الجديد لولادة عالم حقيقي متعدد الأقطاب يبنى على أساس الشراكة السياسية والاقتصادية والمعلوماتية فهي الفاعلة، وليست التهديد باستخدام القوة العسكرية التي يعلم الجميع أنها ستدمر المنطقة كلها لامتلاك الدول العظمى منظومة الردع الاستراتيجي.
مخرجات “كورونا ” ومآلاتها ستغير النظام العالمي الحالي، الذي بدأ يتغير فعلاً وسط الصراعات العسكرية والسياسية في المنطقة، فبعد أن كانت كلمة أمريكا هي الآولى والأخيرة، أصبحت تلقى معارضة في أروقة الأمم المتحدة ويستخدم ضدها الفيتو من قبل روسيا والصين .
معطيات هذا التغير في مسار القطب الواحد وجودت تحت عناوين عسكرية واقتصادية وصحية، فشل فيها النظام الأمريكي من تحقيق انتصارات تعزز من وجوده قوةً عالميةً لا تقبل المنافسة والمنافشة في قراراتها .
المعطى العسكري يبرز لنا في الإخفاق الكبير للقيادة السياسية والعسكرية الأمريكية في تحقيق انتصارات عسكرية على غرار ما فعلته في العراق عام 2003م بتغيير شكل النظام السياسي فيها ، وإن كان كل ما يحدث في العراق اليوم ينبئ بانتكاسة أمريكية كبيرة، وذلك ببروز تيار سياسي وعسكري مناهض لتوجهاتها في العراق والمنطقة.
فشل أمريكا عسكرياً في سوريا، وأفغانستان، واليمن، ولبنان كسر هيبتها العسكرية التي كانت مصدر تهديد لدول المنطقة التي لا تدور في فلكها، فما حصل في سوريا من فشل أمريكي كبير في تغيير بنية النظام السوري، وتغيير صفته السياسية والعسكرية شكل خيبة أمل كبيرة للسياسة الأمريكية ، فبعد غزو العراق عام 2003 م كان لابد من تغيير لنظام ثلاث دول في المنطقة سوريا، وليبيا و إيران، والأولى كانت هي المهمة بسبب تواصلها السياسي والعسكري مع قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، فأرادت أمريكا كسر هذا الثالوث المرعب لها ولإسرائيل، (إيران، سوريا ،قوى المقاومة) ولقاء وزير الخارجية الأسبق “كولن باول” بالرئيس السوري “بشار الأسد ” يترجم لنا ما حصل ويحصل في سوريا، ففي ذلك اللقاء جاءت أمريكا إلى سوريا وهي متشية بهزيمة الرئيس العراقي السابق ” صدام حسين” وأملت على القيادة السورية شروط لتجنيب سوريا ما حصل للعراق ، هذه الشروط أصبحت معروفة وتترجم لنا لماذا دمرت سوريا بأيدي سورية وعربية وغربية وبعباءات مختلفة إسلامية ومناطقية وإثنية، هذا كله لا يهم أمريكا المهم هو إخراج سوريا من دائرة قوى المقاومة والممانعة، فهل نجحت أمريكا في ذلك ؟! الواقع السوري اليوم وبعد صراع عسكري دخل سنته التاسعة يقول بفشل أمريكا بتغيير المعادلة السياسية و العسكرية في سوريا، والذي للأسف كلف سوريا شعباً وجغرافيا الكثير من الدماء والدمار، والفشل الأمريكي موصول في افغانستان واليمن ولبنان ، وهذا يعني انتهاء زمن القطب العسكري الواحد المهيمن على العالم .
المعطى الاقتصادي في الصعود الصيني الكبير في الاقتصاد والذي يهدد سيادة الاقتصاد الأمريكي على العالم الذي بدوره سينهي زعامة أمريكا اقتصادياً ، وقد صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق “جون بولتن عن خطورة تنامي وسيطرة الاقتصاد الصيني في أفريقيا حيث صرح بتاريخ 27 نوفمبر عام 2018 في كلمة ألقاها في مؤسسة “هريتدج للأبحاث “إن الأولوية الأهم لدى واشنطن ستتمثل في تطوير علاقات اقتصادية في المنطقة فالمنافسون على القوى العظمى وتحديداً الصين وروسيا يوسعون نفوذهم المالي والسياسي على نحو سريع في أنحاء أفريقيا” وقال أيضاً إنهم يوجهون استثماراتهم في المنطقة عن عمد وعلى نحو عدائي لنيل أفضلية تنافسية على الولايات المتحدة، هذا التصريح وغيره الكثير يدلنا على عمق التنافس الأمريكي الصيني في الجانب الاقتصادي.
هي حرب معلنة وغير معلنة بين أمريكا والصين، وما يحدث بينهما في مسألة الرسوم الجمركية بداية عنوان الحرب الاقصادية ،ومشروع شركة “هواوي الصينية الكبير في الانتقال إلى نظام تكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات اللاسلكية “جي 5” وهو أكبر تهديد للتكنولوجيا الأمريكية.
في المقابل جاءت جائحة كورونا لتثبت صواب انتهاء عصر هيمنة القطب الواحد ، فما بعد كورونا ليس كقبله ، حيث أثبتت هذه الجائحة هشاشة النظام الصحي الرأسمالي المتمثل في خصخصة الجانب الصحي، والدعوة اليوم في دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا لتدخل نظام الدولة أكثر في جانب الرعاية الصحية يهدم النظرية الرأسمالية في الرعاية الصحية مقابل ما يسميه الغرب نظرية الدولة الشمولية في الجانب الصحي.
من هنا بشر كثير من المحللين السياسيين بظهور نظام دولي جديد بسبب “كورونا” فقد كشفت هذه الجائحة عن عدم قدرة دول كبيرة في الاتحاد الأوروبي وحتى أمريكا في مواجهة هذا الوباء وطلبت المساعدة من الصين ،وهذا الأمر سوف يرسم الخارطة الجديدة للعالم بنظام دولي جديد عنوانه تعدد الأقطاب السياسية والعسكرية والاقتصادية ، وهذا المفهوم الجديد لهذا العالم لا تريد أمريكا أن تدركه، وتحارب منهكة في ميادينه وتخسر الوقت والمال والرجال لعنجهيتها في عدم الاعتراف بالنظام الدولي الجديد التي ستكون هي قطباً فيه من بين الأقطاب، ولكن ليست القطب الأوحد.؟!