اغتيال الجنرال قاسم سليماني والمهندس (الأسباب والرد والنتائج)
بقلم:جمال الكندي
الثالث من يناير 2020 م سوف يبقى هذا التاريخ في الذاكرة السياسية الإيرانية والعراقية والأمريكية طويلاً؛ لأن ما بعد هذا التاريخ ليس كما قبله، وربما يغير اللعبة السياسية والمساكنة العسكرية بين إيران وأمريكا في المنطقة، فهو اليوم الذي قامت فيه أمريكا بخلط الأوراق العسكرية واغتالت الجنرال “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ونائب الحشد الشعبي العراقي “أبو مهدي المهندس”، وكلا القائدين يعدَّان من أعمدة القوى المناهضة للوجود الأمريكي الصهيوني في المنطقة.
عملية اغتيال سليماني والمهندس فاجأت حلفاء أمريكا والعالم لما لها من تداعيات سياسية وعسكرية كون من اغتالتهم أمريكا يُعدَّان من الشخصيات الفاعلة عسكرياً وأمنياً في محاربة داعش في العراق وسوريا، ولكن السؤال لماذا كانت تصفيتهم الآن؟ وهل التوقيت له أبعاد سياسية معينة لدى الإدارة الأمريكية ؟ وهل اغتيالهم سوف يغير من المعادلة السياسية بين أمريكا وإيران وعموم قوى المقاومة ؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها حسب المعطيات التي تكشفت بعد حادثة الاغتيال.
قبل الخوض في الأسباب الأمريكية لابد أن نستعرض ما يحدث في المنطقة من تطورات سياسية وعسكرية أمريكا طرف فيها ، ففي العراق كانت الإدارة الأمريكية تحاول القيام بتغيير جذري للنظام الذي حلَّ بمساعدتها بدلاً من نظام الرئيس الأسبق “صدام حسين” وسارت الأمور في بدايتها حسب هواها، ولكن الأمور تبدلت سريعاً وأصبح الساسة العراقيون يغردون خارج السرب الأمريكي، والنتيجة ظهور داعش في العراق الذي هو صنيعة أمريكية وباعتراف الرئيس “ترامب ” بنفسه عندما كان يخوض الانتخابات الرئاسية ضد “هيلاري كلينتون” حيث قال أمام حشدٍ من أنصاره في فلوريدا: إن الرئيس “أوباما ” هو مؤسس تنظيم داعش، مع ذلك لم تفلح الأداة الأمريكية من تغيير المشهد العراقي، وقُضيَ على داعش بفضل من قتلتهم أمريكا، وفي سوريا بات الفشل الأمريكي واضحاً بعد التخلي عن الحليف الكردي الذي هو ذريعة الوجود الأمريكي في سوريا وسيطرة الدولة السورية على أجزاء واسعة من الجغرافية التي كانت تحت سيطرة تنظيم “قسد”، والأمور كذلك تخرج عن السيطرة الأمريكية في لبنان واليمن وأفغانستان.
إذن نحن أمام سياساتٍ أمريكيةٍ فاشلة في مناطق النزاع السياسي والعسكري في شرق آسيا فهل كان الحل بقلب الطاولة وإرغام من أفشل السياسة الأمريكية على التفاوض حسب الرؤية الأمريكية ؟ هنا جاء قرار اغتيال “سليماني والمهندس”، وهذه كانت بحسب كثير من المحللين السياسيين مغامرة ومقامرة للرئيس الأمريكي “ترامب” والمعروف عنه مقامراته المالية التي أدخلها في السياسة، فهو يعلم عواقب هذا الأمر اقتصادياً وعسكرياً على المنطقة، لذلك أرسل رسائل أمريكية إلى القيادة الإيرانية تطلب أن يكون الرد محدوداً لاحتواء ما سيحصل بين البلدين.
ولكن السؤال مازال قائماً لماذا أقدم الرئيس الأمريكي على هذه العملية ؟؟ الجواب الأول نأخذه من فم “ترامب” حيث يقول بأنه فعل ذلك لكي يجنب المنطقة الحرب، وهذه الذريعة تضحك الثكلى !؟ فهل قتلهما يجنب المنطقة الحرب أو العكس .
العملية مقامرة ترامبية – إن صح التعبير – فقد كانت تعوّل على سيناريوهات معينة منها: إرغام إيران للجلوس على طاولة التفاوض، بعد احتوائها صدمة اغتيال ” قاسم سليماني” بردٍ بسيط حسب ما طلبته أمريكا عبر الرسائل التي بعثتها بعد عملية الاغتيال، وطبعاً هذا الأمر قوبل بالرفض الإيراني، والسيناريو الآخر هو عدم الرد الإيراني في المدى المنظور القريب واستثمار ذلك أمريكياً بإظهار صورة إيران لدى حلفائها أنها نمرٌ من ورق ، وهذا بدوره يرفع أسهم “ترامب لدى ناخبيه في الانتخابات الرئاسية القادمة ويصبح بطلاً قومياً، أما السيناريو الأخير وهو التصعيد العسكري والسياسي وتغيير كل الخطوط الحمراء بين أمريكا وإيران هو الأمر الذي لا تريده أمريكا فسيدخل المنطقة في حرب مفتوحة لا تريدها إيران ولا أمريكا ولا وحلفاؤهما، ومن أجل ذلك لم نرَ أي دولة عربية أو إقليمية أو عالمية أيدت ما فعله “ترامب “، بل على عكس ذلك فقد كانت تدعو إلى ضبط النفس واحتواء الأمر من الجانبين وعدم دحرجة كرة الثلج أكثر من ذلك.
من أسباب إقدام الرئيس “ترامب ” على هذه المغامرة العسكرية هو الهروب الى الأمام من مشاكله الداخلية، ومن أهمها قضية عزله التي وإن لم تحصل وهو المرجح فهي سوف تؤثر على حظوظه في الانتخابات الرئاسية القادمة، علاوة على ذلك فإن مغامرة “ترامب” لم تجد إجماعاً في الأوساط السياسية الأمريكية بسبب ضعف مبرراتها، فقد أجمع السيناتور “بريني ساندرز” والسيناتورة “إليزابيث وارين” وجو بايدن نائب الرئيس السابق على إدانة خطوة “ترامب” التي حسب قولهم تؤدي إلى التصعيد مع إيران وربما ينتج عنها حرب شرق أوسطية جديدة .
هذا التنبؤ بحربٍ شرق أوسطية ناجم عن الخوف الأمريكي من طبيعة الرد الإيراني الذي لا أحد يعلم طبيعته إلى الآن غير القيادة الإيرانية، وهذا ما يجعل الإدارة الأمريكية والعالم في ترقب، والعقل السياسي الإيراني الذي يعرف عنه بدبلوماسية النفس الطويل سيوظف هذه الميزة باستراتيجية الرد العسكري الطويل الذي يحمل أهدافاً معينة يعرفها الإيراني تغير من قواعد الاشتباك في المنطقة، والرد الإيراني قادم وهذا ما يعلمه الأمريكي، ولكن يريده أن يكون رداً لا يجرُّ المنطقة إلى حرب، فالرد السياسي لعملية الاغتيال بدأ في العراق بتصويت البرلمان العراقي لصالح إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وقرار البرلمان يترجم عند المقاومة العراقية بحق استهداف الجنود الأمريكان، وهذا بدوره يرجع صورة التوابيت الأمريكية ما بعد حرب 2003م التي مازالت عالقة في ذهن الساسة والعسكريين الأمريكان .
أما الرد العسكري الإيراني المباشر فلا أحد يعرف طبيعته إلا القيادة الإيرانية ، ولكن الذي يدركه الأمريكي أن هذه الفعلة سوف تغيّر الخارطة السياسية والعسكرية للوجود الأمريكي في المنطقة، فقد أدت هذه العملية إلى نتائج عكسية لم تقدرها الإدارة الأمريكية من تلاحم القيادة العراقية والإيرانية والاتفاق على عدم شرعية الوجود الأمريكي في العراق بعد هذه الحادثة .
نتائج عملية الاغتيال قد تستغرق فترة من الزمن ولكن الذي تعلمه جيداً الإدارة الأمريكية أن ما بعد تاريخ الاغتيال ربما سينقل الصراع الأمريكي الإيراني من الحرب بالوكالة إلى المواجهة العلنية المباشرة، فقد قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة “فرحان حق”: إن الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” قلق من حرب جديدة في الخليج العربي قائلا:(إن العالم لا يمكنه تحمل هذه الحرب)، وهنا ندرك النتائج الخطيرة لما أقدم عليه “ترامب ” إذا لم تُحتوى هذه الأزمة، والكرة الآن في المعلب الإيراني وهو الوحيد الذي يعرف أين سوف يسدد الكرة وما علينا إلا الانتظار .