بانوراما المشهد اليمني
رأي-وهج الخليج
مَنْ كان يرى التحالف العربيّ منذ بداية نشوئهِ في اليمن يعرفُ أنّ له أبعادًا أكثر من الأهداف المُعلَنِ عنها، هذه الأهداف كانت تُحقَقُ بوسائِلِها الموارَبة، ولا مجال هنا لاستِعْراضِها وقد بلغ التعرّي في تحقيق الأهداف ما يجعلُ الأعمى يراها، ألا وهو تقسيمُ اليمن، وفق مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، لتكون بلادًا مقسّمةً جديدةً مع السودانَيْن الجنوبي والشمالي، وامتصاص ثرواتِهِ، وإنما بأدواتٍ تختلفُ عن أدوات “سايس بيكو” التي قسّمت الوطن العربي والشرق الأوسط بمسطرةٍ وفرجار في غياب الوعي العربي، وتغييب مناضلي تلك الفترة.
والأدوات التي يُرادُ بها الآن تقسيمُ اليمن وامتصاص ثرواته، أدواتٌ مُستَهلَكَةُ في العقلية الأوروبيّة التي تمرّستْ باحتلال الشعوب والأراضي فيما رواء بحارِها، وصارتْ تلك الأدواتُ في مناهجَ قديمةٍ يُستفادُ مِنْ دُروسِها، إنما وجدَتْ العقليّةُ الأوروبيّةُ “أعرابًا” مُتخمين بالثروةِ أعجبتْهم الثرثرةُ بِلكْنَتِها وتسريحة شَعْرِها، فصدّرتْ لها الأدواتِ المستهلَكة في كيس مُزوّق كبيرٍ يُوهم بالعَظَمة، حتّى أزّمَتْها، فتحوّلتْ تلكَ الأعرابُ لأدواتٍ وسخةً للعقلية الأوروبية مضافةً إلى الأدواتِ المستهلكة.
ما أُريدَ للأزمةِ اليمنية أنْ تنتهي، وإلّا فإنّ المُتغيرات السياسية على الساحة الدولية وتصاعد قوة الحوثيين لا تدميرها، ووصول ضرباتهم إلى عمق دولة التحالف بغضّ النظر عن قوة تأثير ضرباتهم، كان كفيلا بإعادة الحسابات، والشروع بالحلول السلمية، كما أنّ مفاصل من هذه الأزمة كانت قابلَةً للحلول السلمية، سواءً تحت مظلّة الأمم المتحدةِ، أو قبل نشوب الأزمة بتوافقٍ داخلي، بل أُريدَ للأزمةِ اليمنية أنْ تستمرّ، والوضعُ هذه المرّة أشبهُ بماركة حلاقة، وإنما استخدمت متدرّبين غريرينَ مغرورين، فيُخطئون فيجزّون الرؤوس، ثُم تُجَزُّ رؤوسُهم قَصاصًا، بينما تبرأ ماركة الحلاقة من تلك الجريمة، وتمضي الفوضى الخلاقة في تفتيت وتحديد الشرق الأوسط الجديد، لذلك على اللاعبين في اليمن أنْ يَبلُّوا رؤوسَهم، ويفتحوا شِوَال ثرواتِهم أكثر وبفتحاتٍ أكبر، دفعًا لفاتورةِ المحاكم، وضمانًا لبقائهم في الكراسي حتى حين.
سذاجة اللاعبين في اليمن أنهم لا ينظرون أبعَدَ مِنْ أنفِهم، أكلوا قليلا مِنَ (الجاتوه) فظنّوا أنهم أكلوا كل الكعكةِ اليمنية، ولم يعلموا أنّ التاريخ اليمني ينظرُ مِنْ علٍ وفي الأرحامِ أجنّةُ تتوعّدهم بالثأر، كما أنّ سذاجتهم أوهمَتْهُم أنهم يلعبون لوحدِهم، وتلك صفة الجبان كما صوّرها أبو الطيّب المتنبي “وإذا ما خلا الجبانُ بارضٍ طلب الطعن وحدَهُ والنزالا” ، فما حسبوا حسابًا للدولِ الأخرى الراكزةٍ في المشهدِ السياسيّ الدّولي بحنكةٍ ودهاء، فتحركتِ المطامعُ أبعد من قماش الشمّاعةِ التي بها دخلوا اليمن، تحرّكوا إلى المطارات والموانئ الاستراتيجية، وإلى سقطرى والمهرة وغيرها من الأراضي اليمنية التي ترفضهم، وسط أسئلةٍ بدهيّةٍ ماذا يفعلون هنا إنْ لم يُوجدِ الحوثيون ولا القاعدة التي يُحاربونها كذلك على حدّ زعمهم.
مرّت الأزمةُ اليمنية بعد استيلاء جماعة أنصار الله على العاصمةِ صنعاء بمفاصِلَ، وكلُّ مفصلٍ فيه يؤرّخ لمرحلةٍ مِنَ المشهد، حتى استيلاء جماعة أنصار الله على العاصمةِ صنعاء كان حدَثًا مشبوهًا، وهو كان المبتدَأُ في الأزمة اليمنية، لتبدأ بالدخول العسكري، والمفصَلُ الثاني كان باغتيالِ الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، القادر على اللعب مع الثعابين، فهذه المرحلةُ تؤسس لتبديل جزئي للمُمثّلين على المسرح، والذي يُمكنهم من تغيير معادَلات اللعب، وستعودُ هذه المرحلةُ مرّة أخرى، إنما تبديل أوسعٍ للشخوص من داخل وخارج اليمن، و”كشّ ملك” لأبطال التحالف والشرعية، وسيكون فيها قد أُحكِمَ على ثروات اليمن، لتنتقل كبّة اللهب إلى مُسعّري حربِها.
في تلك المراحل، كان الحلّ الدبلوماسي لليمن يبرز ظاهرًا، ولكنه كان يُعْمى عنه، حتى وصلنا للمرحلة الأهم، أي مرحلة تقسيم اليمن، ومحاولة الإعلان عسكريًا فسياسيًا باحتلال قصر المعيشيق بعدن، وإعلانها عاصمةَ مستقلة للجنوب اليمني، حدثَ ذلك بإنشاء قوةٍ عسكريّة “قوات النخبة التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي” وتحت الذريعة الأولى نفْسِها “محاربة إيران في اليمن”، بينما أُهْمِلت القوات المسلّحة اليمنية، والتي يُفترضُ أنّ واجبها الشرعي والقانوني حماية التراب اليمني والحفاظ على وحدتهِ، وتحاول حاليًا دول التحالف العربي (شرعنة) وجود المجلس الانتقالي الجنوبي ككيانٍ سياسيّ بِقوة واقعيةٍ على الأرض، لتَتَعدّد (الشرعيات) اليمنية، بل ربما ليحلّ هذا المجلسُ محلّ السُلطةِ الشرعيّة، بعد أنْ عملتْ على إضعافها وإسقاط رمزيّتها أمام الشعب اليمنيّ، وحين كتابة هذا المقال تتواردُ أخبارُ انشقاقاتِ ألويةٍ عسكريّةٍ من الجانبين وتغيير في الولاءات وفق المصالِح القبليّة، والرشوات الماليّة، وهو الأمر الذي يعني إدامة الفوضى اليمنية، والمُضيّ في مخطط تقسيم اليمن إلى يمنَيْن، وربما إلى ثلاث أجزاء مفتتةٍ لليمن.
مرحلة إحتلال عدن، تؤرّخُ لمرحلة لها ما بَعْدها، تميّزت بسقوط ورقة التوت اليابسة عن بعض دول الشرعية، بالتطاول الأخلاقي على الحكومة الشرعية ورموزها، وهو الأمر الذي يُسجّل لها براءة اختراع، ولا عجب في ذلك، إذا استرجعنا أنّ الفكر الذي يُسيّر تلك الدولة حاليًا هو فكرٌ صهيوني بكلّ الشواهد والدلائل، وما يُعرف عن اليهود من استباحتهم الأخلاق بالقذف والشتائم، واتكاء هذه الدولة في مشروعها السياسيّ على إسرائيل، يُشير بجلاء إلى سقوطِها المتسارِع قبل قطْفِ أحلامِها التي تمنّتْها من اليمن.
هذه المشهد للبانوراما في اليمن، يؤكدُ أنّ اليمن كعكةٌ حجريّة، ليست سائغة للآكلين، وأنّ حقل التفاح سيُخرج غزاته عراةً جوعى، إلّا إذا تداركوا أمرهم بانسحابٍ كامل لا جزئي، وإنْ كان مرقعاً بِحلّ سياسيّ يكون نصيبُهم منه أثلٌ وشيءٌ من سِدْرٍ قليل، وهذا أسلمُ لأوطانهم، وإلّا فإنّ باب جهنّم قبالة جنة عدن.