اختلاس وإفلاس
بقلم:بدرية البدري
طُويت صحيفة الاختلاسات في أروقة وزارة التربية والتعليم، واستلمها القانون ليأخذ مجراه فيها، تلك الاختلاسات التي تعدّت الخمسة عشر مليوناً( +15000000) حسب ما تم الإعلان عنه رسمياً، ولكلٍّ منا أن يتخيّل تأثير هذا المبلغ على تعديل وضع المدارس، ولو بإضافة كراسٍ للطلاب الذين يقضون أيامهم الأولى راكضين بين الفصول، باحثين عن مقعدٍ قديمٍ يريحون أجسادهم المتعبة بالجلوس عليه؛ فهل مرّ الأمر مرور الكرام على المدارس والكادر التعليمي والطلابي؟ أم أن لتلك اختلاسات ما بعدها؟ هذا ما سنلاحظه من خلال ما سأورده فيما يلي:
1) تفاجأنا في بداية العام الدراسي بتعميم يصل إلى المدارس، يقضي بزيادة نصاب المعلم الواحد ليصل إلى 28 حصة، بواقع 6 حصص في اليوم الواحد أحياناً، يعني 4 ساعات يقضيها المعلم واقفاً، متحدثاً، ومُتنقلاً بين طلابه لشرح لكل ما يصعب عليهم فهمه، متجاهلين الوقت الذي يقضيه المعلم في التحضير لدروسه، وإعداد الوسائل التعليمية سواءً الإلكترونية، أو الورقية أو غير ذلك، وبحثه المستمر عن طُرق التدريس الحديثة، والأساليب التربوية للتعامل مع الطلاب، وما يقضيه من وقت في منزله لاستكمال ذلك التحضير، لنتفاجأ بعده بتقليل عدد المعلمين في المدارس رغم زيادة عدد الفصول فيها، توافقاً مع هذا القرار، نظراً لعجز الوزارة عن تعيين معلمين جُدد للمدارس الجديدة، أو انتداب معلمين يغطّون العجز في الكادر التدريسي.
2) تقليص عدد الحافلات في المدارس، رغم زيادة عدد الطلاب، مما أدى إلى زيادة عدد النقلات، وخروج الطلاب صباحاً قبل بدء الدراسة بساعة وأكثر أحياناً من منازلهم، أو تكديسهم في نقلة واحدةٍ أو نقلتين، في تجاهلٍ صارخ لقواعد الأمن والسلامة الواجب إتباعها للحفاظ على أرواح هؤلاء الطلاب – هذا الأمر لا ينطبق على محافظة مسقط وبعض المحافظات الأخرى – إذ أنهم متعاقدون مع مواصلات، لنقل الطلاب من وإلى المدارس.
3) زيادة عدد الطلاب في الفصل الواحد ليصل إلى 38 طالب للحلقة الثانية و35 طالب للحلقة الأولى، ورغم أن هذا العدد كان مقبولاً قبل 20 عامٍ وأكثر، إلا أنه لم يعد كذلك لسببين: أولهما أن النظام التعليمي الحالي اختلف عما كان، خاصة مع ازدياد الأنشطة التفاعلية، وتطبيق نظام المجموعات، التي تتطلب حرية الحركة داخل الفصل.
السبب الثاني، أن مساحة الفصل قديما كانت أكبر من مساحته حالياً.
4) تحويل غُرف الأنشطة، كغرفة التربية الفنية والمهارات الحياتية والموسيقية إلى صفوف، لنقصٍ في المباني المدرسية، وتزامن ذلك مع تحويل مناهج الأنشطة إلى مناهج تعتمد في الكثير من تفاصيلها على الحفظ المعلوماتي لا الفني ولا المهني، ووجد الطالب نفسه محاصراً بالحفظ والمعلومات حتى في الحصص التي يُفترض أن يتخفف بها من وطأة الدراسة.
5) عدم توفير كوادر إدارية كافية في المدارس، بل وتوزيع الكادر الإداري في بعض المدارس إلى مدارس أخرى، ليكملوا النقص في مكانٍ ما، وترك أماكنهم شاغرة دون أن يملأها أحد، مما يؤدي إلى تحمل أحد الموظفين لعملٍ يُفترض أن يؤديه موظف آخر، ليصبح الأمر كمن يُقيم جداراً على أنقاضِ جدارٍ آخر كان قائماً فهدّه.
6) التوقف عن طباعة بعض الكتب، مثل مادة تقنية المعلومات، والاكتفاء بنسخ إلكترونية، يضطر الطلاب إلى طباعتها في المكتبات، بأسعار مرتفعة، أو الاستعانة بها بشكلها الإلكتروني، وهو أمر صعب جداً يتنقّل من خلاله الطلاب بين الكتاب الإلكتروني، والبرنامج، مما يُشتت انتباهه، ويُعيق تنفيذه للنشاط المطلوب منه، كما لا يمكنه من استرجاع دروسه في المنزل، نظراً لأن أغلب طلابنا لا يمتلكون حواسيب في منازلهم.
نحن نواجه كل هذه المشاكل بحجة أن ميزانية الوزارة لا تكفي، وأن هناك نقص يصعب تغطيته، رغم أن موازنة وزارة المالية تُفيد بأن حصة التعليم بلغت ما نسبته 16% من ميزانية الدولة في العام 2018م، ويُقدر أن تبلغ 17% في عام 2019م، وهي الأعلى في الميزانية العامة للدولة تليها وزارة الصحة بنسبة 10% في عام 2018م و11% في عام 2019م.
ترى أين تذهب هذه الميزانية؟ أعلم أن القارئ سيقول: احسبي عدد المعلمين، واحسبي رواتبهم، أنا لا أتجاهل المصاريف التي تتكبّدها الوزارة، وأُقدِّر ما يتم صرفه على تطوير المناهج، وتكريم المعلمين في كل عام؛ فهل الأمر فعلاً نقص ميزانية؟ أم سوء تدبير؟ إذ أن القاعدة تقول: عندما تواجه عجزاً أو شُحّاً في الموارد المالية، عليك أن توجّه الصرف للأساسيات وليس للكماليات.
وسأسأل عن بعض المصاريف التي وجب أن توجّه للعملية التعليمية وذهبت إلى أشياء كان من الأولى أن تكون أقل أهمية، ومنها:
أ) الخبراء الأجانب القابعون خلف مكاتبهم دون عمل، أو إضافة حقيقية نظير المبالغ التي يتقاضونها، إذ يصل راتب أحدهم إلى آلاف الريالات، كل ذلك وفي الوزارة كفاءات محلية تُغني عن الإتيان بخبراء يُثبتون فشلهم عاماً بعد آخر، وما أن تمضي السنة في عقد أحدهم حتى يحزمون حقائبهم، ويرحلون، دون تحقيق فائدة سوى إهدار ميزانية الوزارة، التي كان من الممكن أن تُصرف على أمور أكثر استحقاقية؛ ليتم البحث عن آخرين، وتجربتهم، وتستمر الحلقة تدور في دائرة مغلقة.
ب) حفل تخريج الدفعة الأولى للمتدربين بالمركز التخصصي للمعلمين، والذي أهدر مبلغاً كبيراً من ميزانية الوزارة ليس أقله إيجار مبيت ليلة في فندق 4 نجوم في مسقط لعدد 1883 متدرب.
هذه الدفعة التي أنهت تدريبها في العام 2016، وتم تخريجها في العام 2019، بسبب رفض اعتماد الشهادة من أي جهة تعليم عالي في السلطنة، بعد أن قفزت الوزارة على الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي التي تُصادق على البرامج، وتخطّت التعليم العالي، وتعاقدت مع معهد التعليم (جامعة لندن) UCL لاعتماد الشهادة، دون دراية أو دراسة للأمر، أو حتى معرفة بأبجديات الاعتماد؛ لتكتشف بعد فوات الأوان أنها يجب أن تُصادق على برامجها من الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي أولاً، وبالتالي أصبحت الشهادة دون أهمية، رغم أنهم أخبروا المتدربين أن الشهادة التي سيحصلون عليها تُعادل درجة الماجستير – حسب كلام بعض المتدربات اللواتي أعرفهن شخصياً، وكُنَّ فخورات جداً بانتسابهن للبرنامج إلى أن صُدِمن بالحقيقة – فهل جهاز الرقابة المالية على علم بالأمر ويتابع؟ ( أترك للجهاز السؤال عن المبلغ المصروف على الاعتماد – الذي لم يحدث – إذ لا أظن أن مهمته الكشف عن السرقات فقط، بل وحتى عن الفساد الإداري).
ثلاث سنوات ووزارة التربية والتعليم تحاول حل مشكلة الاعتماد، وبعد أن استعصت عليها الحلول أبت إلا المكابرة، وواصلت هدر ميزانية الوزارة بصرفها على حفل تخرج لشهادة بلا قيمة، وليس أدلّ على ذلك من عدم حضور كثير من الخريجين لحفل التخرج، بل وحتى عدم استلام شهاداتهم التي لا زالت حتى اللحظة في أدراج المركز التخصصي للتدريب المهني للمعلمين.
وهنا لن يفوتني ذكر تصريحات معالي الوزيرة في كلمتها التي ألقتها بمناسبة بدء العام الدراسي 17/2018م والتي ذكرت بها إنجازات الوزارة التي ستحتفي بها، ومن ضمنها تخريج الدفعة الأولى للمتدربين في المركز التخصصي للمعلمين، والتي يفوق عددها 1500 متدرب – كما ذكرت في كلمتها – ولكن الاحتفاء لم يحدث في تلك السنة، إذ لم تُعتمد الشهادة؛ لتأتي في العام الذي يليه، وتكرر الفخر ذاته بالدفعة ذاتها، ولكن هذه المرة قفز عدد الخريجين إلى ما يزيد عن 1800 متدرب، دون الإشارة عن نسبة الخريجين من العدد الفعلي الذي التحق بالدفعة الأولى بالمركز. ( كلتا الكلمتين بُثتا عبر تلفزيون سلطنة عمان، ويمكن لمن أراد الاستماع إليها البحث عنها في اليوتيوب) وبالفعل تم تخريجهم ومنحهم شهادات غير معتمدة!
ج) الحواسيب المحمولة التي تُصرف للمتدربين في المركز التخصصي، رغم أني لست ضد ذلك؛ فالمعلم يستحق، إلا أن هناك أولويّات في الصرف في ظل الأزمة المالية، ولو افترضنا أن قيمة الحاسوب الواحد (200ريال) فإننا سنعرف بحسبة بسيطة أن ما صرفته الوزارة على هذه الحواسيب للدفعة الأولى فقط، البالغ عدد خريجيها 1883 متدرباً يبلغ تقريباً (376,600 ريال)، ولكن هل هذا هو العدد الفعلي للملتحقين؟ لا طبعاً؛ فالعدد يفوق ذلك بكثير، ولكن هذا العدد هو من تبقّى منهم.
إضافة إلى ما تم ذكره أعلاه من مصاريف، أجدني مضطرة للحديث عن أمور غريبة، ربما يستغرب منها البعض، ومنها:
أ) المعلم هو الموظف الوحيد الذي يذهب لعلمه، ولا يجد المكان مُعدّاً لاستقباله، وهنا لا أعني الاحتفال، ولكني أعني النظافة، إذ أن عُمّال النظافة يداومون قبل المعلم بيوم واحد فقط – منعاً للهدر المالي – وينظّفون المكاتب الإدارية، وغرف المعلمين، غير قادرين على الانتهاء من تنظيف المدرسة، مما يجعلها أشبه بالمكان المهجور المُلمّعة واجهته.
ب) يبدأ العام الدراسي، قبل أن يتم الإعلان عن المعلمين المنقولين خارجياً وداخلياً، والتعيينات الجديدة، مما يؤثر على إعداد الجدول، وتوزيعه بين المعلمين؛ ليأتي الطلاب لمدارسهم والجدول لا زال غير واضح المعالم.
ت) لا يتم فتح صلاحيات طلب معلمين بالأجر اليومي، في حال كان هناك إجازات لبعض المعلمين، كإجازات الأمومة والإجازات المرضية الطويلة أو الإجازة بدون راتب، إلا بعد دوام الطلاب، مما يجعلهم يتأخرون في الدراسة.
ث) لا يتم اعتماد نقل طلاب الصف الثاني من المدارس الخاصة على الحكومية، إلا بعد دوام الطلاب، رغم أن ذلك قد يؤدي إلى فتح فصلٍ جديد، خاصة مع اكتظاظ الفصول في هذا العام، مما يعني الحاجة لفصل دراسي مستقل (مبنى) وربما معلمين في كل التخصصات، وهذا قد يؤدي إلى تأخر سير العملية التعليمية، وتأخر التحاق الطلاب المحولين بالدراسة، وتفويت بعض الدروس عليهم.
إنني حقاً لا أفهم ما يحدث، ولا أستطيع تفسيره، لماذا لا يتم الانتهاء من إعداد قوائم التنقّلات، واعتماد الطلاب في مدارسهم الجديدة، قبل بدء العام الدراسي، خاصة أن موظفي المديريات المسؤولين عن هذه الأمور على رأس عملهم، ويُفترض أن ينتهوا منه، لتبدأ المدارس عملها من أول يوم، ولكن؛ وكما يقول الشاعر:
لقد اسمعت لو ناديت حياً
ولكن؛ لا حياة لمن تُنادي
هذا المقال الباحث عن حل لما نعانيه في الإدارة المالية للمنظومة التعليمية ليس الأول، ولكني أرجو أن يكون الأخير؛ إذ لا أتمنى أن نصحو في يومٍ ما ونحن مُفلسون من الحلول.