نداءً أخوي للشيخ أحمد الخليلي إلى الشعب اليمني الشقيق
وهج الخليج-مسقط
أصدرت دار الكلمة الطيبة ذات النتاج العلمي والفكري والدعوي نداءً أخوياً للعلامة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام للسلطنة في تويتر موجهاً إلى الشعب اليمني الشقيق. وهذا هو نص النداء:
“الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا نداء أخوي إلى الشعب اليمني الشقيق، الذي يسيل دمه مدرارا بأيدي أبنائه، وتباد ثرواته وتبدد خيراته بتلك الأيدي، التي كان حريا بها أن تحرص على بناء اليمن الشقيق لا على هدمه، وأن تسعى إلى ألفته لا إلى تنافره.
ولم أرد بهذا النداء إلا وجه الله تعالى، فكم هي خسارة الأمة المسلمة كلها بما يزهق في اليمن من أرواح، وما يخرب من عمران، وما ينتهك من حرم، وما يتلف من أموال وليت شعري من الرابح من وراء هذه الحرب الزبون، التي يأتي ضرامها على الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيها؟! وإنما وجدوا أنفسهم في وسط أتونها، يلتهمهم سعيرها، ولسان حال كل منهم يردد قول الحمداني:
لم أكن من جناتها علم الله وإني لحرها اليوم صال
فهل لطرف من المتقاتلين أدنی ربح فيها؟ كلا، وإنما الرابح هو عدو الأمة المتربص، الذي يحرص على تمزيق شملها وإضعاف قواها وشحن قلوبها بالسخائم والأحقاد، وتوريث أجيالها الثارات والترات، لتستمر بينهم القطيعة، وتتغلغل فيهم البغضاء، وتتوالى عليهم الفتن، وهو بذلك يخطط لازدراد ما تبقى منها، حتى تكون بكل مقوماتها المادية والمعنوية لقمة سائغة في حلقومه.
فليت شعري؛ أما آن الأوان لأن يستجيب الفرقاء المتحاربون لصوت العقل والضمير، ويتصانموا عن داعي الفتنة المسعور الذي لا يريد إلا إذلال كل فريق من المتقاتلين، فيا هذه إلا غنيمة باردة يقدمها المتحاربون بأيديهم إلى خصمهم اللدود.
وكم للشعب اليمني الأصيل من مزايا هي حرية بحجزهم عن الاندفاع إلى سعير الفتنة، حسبهم شهادة النبي ﷺ الثابتة عنه في رواية الشيخين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ : “أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبا، وأرق أفئدة، الإيان يمان، والحكمة يمانية…”.
فليت شعري؛ أين ذهبت هذه المزايا، وكيف بددتها الأهواء وطمستها الفتن؟! فأين رقة الأفئدة ولين القلوب، وأين الإيمان والحكمة؟! ألم يبين الله تعالى في كتابه أن الإيمان يحجز المؤمن أن يقدم على سفك دم أخيه المؤمن إلا أن يكون ذلك خطأ، وفي حالة الخطأ أمر بتدارك خطئه وإصلاحه بإحياء نفس مؤمنة أخرى بعتقها من رقها، مع جبر مصيبة أهل الضحية بدية يدفعها إليهم، كما هو
نص صريح في قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ.. إلخ}، النساء: ۹۲.
أما الإقدام على قتله عمدا؛ فإنه ليس من شأن المؤمن، وقد شدد الله تعالى وعيده في قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء: ۹۳، على أن الله تعالى شدد في قتل النفس البشرية على الإطلاق إلا بمسوغ شرعي، ناهيك من ذلك قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ} المائدة: ۳۲، وسوی وعید ذلك بوعيد الإشراك به، وقرن بينهما في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} الفرقان ٦٨-٦٩.
فيا ترى؟ ألم تقرع هذه النذر مسامع الشعب اليمني الذي وصف على لسان الصادق الأمين – عليه أفضل الصلاة والتسليم – بأنهم ألين قلوبا وأرق أفئدة؟ ! فما الذي ذهب بذلك اللين من تلك القلوب؟ وقضى على تلك الرقة في تلك الأفئدة؟ وأحل محلها القسوة والغلظة، فما بال هذا الشعب
الأصيل ينسلخ من مزاياه، ويخلع عن نفسه ثوب الفخار الذي زينه به رسول الله ﷺ ؟!.
وإذا كان القرآن الكريم بشدائد نذره يحذر من إقدام المسلم على سفك دم المسلم، فإن السنة النبوية – على صاحبها أفضل الصلاة والسلام – توالت أيضا نذرها محذرة من ذلك أيها تحذير، بل هي محذرة من أي افتراق وشقاق أو أي سبب يفضي إليها بين أبناء الملة الواحدة، كما في قوله الثابت عنه بالأسانيد الصحيحة: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك”.
وكذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه: “المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوى ها هنا وأشار إلى القلب بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم”.
وقال : “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل زنی بعد إحصان فيرجم أو ارتد بعد إسلام فيقتل أو قتل نفسا بغير حق فيقتل به”.
وإذا كانت هذه وحدها هي مسوغات قتل المسلم بعد إسلامه، فهل وقع بعض هؤلاء المتقاتلين في شيء منها حتى تستباح دماؤهم وتزهق أرواحهم؟! فليت شعري؛ أما آن لهم أن يفكروا في ذلك، وأن يمعنوا النظر في قضيتهم، وأن يفكروا في منقلبهم؟ فإن الحياة يتبعها الممات، والدنيا تليها الآخرة، وكل أحد يحاسب ويجازی بعمله، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الطور: ۲۱، {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} النساء ۱۲۳ – ۱۲٤.
والناس لم يخلقوا هملا ولم يتركوا سدی، {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ. أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ} القيامة ٣٦-٤٠، والله تعالى يحذرنا من العدوان حتى في الحروب المشروعة، التي تكون في سبيل الله، ولأجل دفع الشر عن أمة الإسلام، كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} البقرة: ۱۹۰.
ولأجل هذه الحكمة البالغة حجز الله تعالى عباده المؤمنين -المحرمين بالعمرة في قضية الحديبية- عن الالتحام بأعدائهم الكافرين، الذين حالوا بينهم وبين أمنيتهم، فمنعوهم عن الوصول إلى البيت الحرام، حتى لا تتلف نفس بريئة آمنت بالله بلفحها بسعير الحرب كما هو صريح قوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الفتح: ۲٥.
فأين هذه العبر كلها من الفرقاء المتحاربين في أرض اليمن العزيزة، فكم أزهق بأيديهم من أرواح بريئة، وكم قطع من أوصال، وكم شرد من نفوس، وكم أتلف من أموال، وكم خرب من عمران، وكم أشيع من رعب أو جف القلوب وأرجف الأرض تحت الأقدام، وزعزع نفوسا فلم تعرف الاستقرار بحال؟!
ومع هذا كله؛ فكم تيتم من أطفال، وكم أرمل من نساء، وأثكل من أمهات بسبب هذه الحرب الزبون؟ ألم يأن لمسعريها أن يفكروا في ذلك؟! فهل مسئوليتها تقع إلا على عاتقهم؟
فعليهم أن يتقوا الله جميعا وأن يلتقوا على كلمة سواء، تعصم دماءهم، وتصون أموالهم، وتحفظ حرماتهم، وتورثهم الألفة بعد الفرقة، والقوة بعد الضعف، والعزة بعد الهوان، والمقة بعد الشنآن، وأن يحتسبوا ذلك كله لله تعالى ليكفروا خطايا هذه الحرب الآثمة، وعليهم أن يقتدوا في ذلك بطرفي الأنصار الذين ألف بين قلوبهم الإيمان، ووحدت بينهم النصرة، فأبدلهم الله بكل إثم أجرا، وبكل ضعف قوة، وبكل فرقة ألفة، وبكل بغضاء حبا خالصا، فعزوا بعد الذلة، ورقوا بعد النزول، فطالت أيديهم حتى امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها بالفتح المبين والنصر العزيز، وقد من الله عليهم بهذا وامتن به في قوله: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آل عمران ١٠٣.
وإني لأستعير في هذا المقام كلمات شاعر الإسلام الناصح الأمين أبي مسلم العماني رحمه الله تعالى في قوله:
ذروا الضغائن تذروها الرياح فما
تبقى على خالص الإيمان أضغان
إن الحظوظ التي ترجي بألفتكم
في الدين في محكم التنزيل فرقان
وما شفاء حزازات الصدور سوى
أن يستبد بطب القلب إيمان
لا تشعلوا الحرب إلا في مواقدها
حيث الجهاد على الباغين موتان
فإن في هذا خيرا للجميع، وعزة للكل، ورحمة تشمل جميع الأطراف، بل تعم الأمة بأسرها، فإن ما يسر الشعب اليمني يسر جميع الأمة، وما يضره يضر بها جميعا، فالكل أمة واحدة، متحدة في آمالها وآلامها، ومسرتها ومساءتها، كما قال النبي: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
وإني لأسأل الله تعالى أن يجمعكم جميعا على ما يحبه ويرضاه، مما فيه خير الدين والدنيا وسعادة الدارين، وأن يؤلف بين هذه القلوب المتفرقة، وأن يجمع بين هذه الفئات المتدابرة، لتكون جميعا كتلة واحدة، معتصمة بحبل الله تعالى، لا ترضى بالوحدة الإيمانية بديلا، ولا بعزة الإسلام ثمنا، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فإن تقوى الله تعالى هي نجاة من كل بلاء، وعصمة من كل مخوف، وقوة من كل ضعف، وهداية من كل ضلالة، وألفة من كل افتراق، ووحدة من كل شقاق.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} آل عمران: ۱۰۲ – ١٠٣
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الحشر: ۱۸ – ۱۹.
هذا؛ وأستودع الله نفسي وإياكم فإنه لا تضيع عنده الودائع، وليس بغافل عن شيء في الأرض ولا في السماء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم في الإسلام
أحمد بن حمد الخليلي
٧ ذي الحجة ١٤٤٠هـ