سياسة ناعمة في ظل حرب طاحنة
بقلم: أحمد المعمري
تفتقد حكومة الوفاق الليبية إلى شخصية تمتلك كاريزما القيادة وإلى هالة من الهيبة وكتلة من الطموح يتناسب مع استبسال الجيش والمدافعين عنها في حربهم للذود عن الدولة في جميع المحاور.
شعب ظل قرابة الأربعين سنة في ظل قيادة لها كاريزما وتهتم بشكل كبير بالمواكب والعروض العسكرية والخطابات النارية ، كون لدى الكثير الصورة التي يجب أن يظهر عليها القادة ، إن تغيير هذه الصورة بنمط ثاني من الحكم المدني الكامل الخالي من أي مظاهر السطوة بهذه الفترة الحرجة التي تمر بها الدولة يفقد هيبة هذه القيادة عند الكثير ، ولا يعلقون عليها آمالا كبيرة. لا تزال صورة القائد في عقول العالم الثالث هو ذلك الشخص الممتنع الذي يخرج لهم في مواكب فخمة ومحاط بالدبابات والمدرعات والقوات الخاصة ويخطب فيهم الخطب الرنانة ، ذلك سيعطي القائد هالة من القوة التي يريد الناس ان يرونها في قائدهم الذي سيحقق طموحاتهم الجبارة ، وبذلك سيعتبروه رمزا للشجاعة ومصدرا للفخر امام الدول الأخرى.
عندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وأتاه أبو سفيان أمر الرسول العباس ان يحبس أبا سفيان مع مضيق الجبل كي يشاهد جيش الفتح ، لأن أبو سفيان من محبي مظاهر الزعامة والقوة وهذا العرض العسكري سوف يغرس في نفسه هيبة المسلمين ويثبط همهه وهمم قريش عن المقاومة عندما يصف لقومه ما رآه من الكاتئب في ذلك العرض المهيب ، فعَنِ ابن عباس رَضِيَ الله عَنْهما : ( فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ حَيْثُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى راياتها، فكلما مرت راية، قَالَ: مَنْ هذه؟ فأقول: بني سُلَيْمٍ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِبَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ أُخْرَى، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضْرَاءُ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إلا الحدق، قال: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ لَعَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فنعم إذاً، فقلت:النَّجَاءُ إِلَى قَوْمِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُمْ بِمَكَّةَ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَذَا مُحَمَّدٌ، قَدْ أَتَاكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِه … ثم قال : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَمَا يغني عَنَّا دَارُكَ، قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ) “مسند إسحاق بن راهويه”. استطاع رسول الله بذلك أن يحقق انتصارا ساحقا بدون ان تراق الدماء مستخدما بذلك أسلوب المواكب والزعامة لاقتضاء الأمر ، ولأن الدولة في بداية عهدها ومهددة بالقضاء عليها فتتطلب الموقف لمثل هذه المظاهر ، وهذا هو معاوية بن أبي سفيان حين ولّاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض الشام ، يبرر لعمر المواكب التي اتخذها ، وسبب امتناعه بأن ذلك يزيد من عزة الدولة الإسلامية في الشام ، لأنها حديثة العهد بالإسلام ، ولا زالت جواسيس الروم تجوب في طرقاتها ، فقد روى الذهبي : (لمّا قدم عمر الشام ، تلقّاه معاوية فى موكب عظيم وهيئة ، فلمّا دنا منه ، قال : أنت صاحب الموكب العظيم ؟ قال : نعم . قال : مع ما بلغنى عنك من طول وقوف ذوى الحاجات ببابك ؟ قال : نعم . قال : ولِمَ تفعل ذلك ؟ قال : نحن بأرض جواسيس العدوّ بها كثير ، فيجب أن نُظهر من عزَّ السلطان ما يُرهبهم ، فإن نهيتنى انتهيت ، قال : يا معاوية ! ما أسألك عن شىء إلاّ تركتنى فى مثل رواجِب الضَّرِس .لئن كان ما قلت حقّاً , إنّه لرأى أريب ، وإن كان باطلا فإنّه لخدعة أديب . قال : فمُرنى . قال : لا آمرك ولا أنهاك). ( سير أعلام النبلاء للذهبي, ترجمة معاوية) طبعا هذا مكنه من نفوس أهل الشام بالتدريج حتى أصبحوا لا يخرجون عن رأيه ، وهذا ما يحتاجه قائد المرحلة الانتقالية من صدق وعدل وقوة في الشخصية لا يهادن الاطراف السياسية او يملى عليه من قبل جنرالات الجيش ، بل يضع ما يراه مناسبا للمرحلة وهذا لا يكون إلا في شخص متوهج وله كاريزما تجمع حوله الأطراف.
تتعامل حكومة الوفاق الليبية مع الوضع الراهن بأحكام السلم ، ونست إنها في موضع يجب عليها أن تطبق فيه أحكام الحرب ، وأن تكون حازمة ولا هوادة لديها في التعامل مع مجرمي الحرب ، آخذةً بمبدأ العين بالعين والسن بالسن حتى تضع الحرب أوزارها ، قد خذلت هذه الحكومة الثوار في أكثر من موقف بإطلاق سراح قادة أيديهم لم تجفّ منها دماء الليبيين ، وحين خروجهم إما إنهم فروا للميلشيات التي تقف ضدهم أو خرجوا للخارج وأصبحوا بوقا يحاربهم من الخارج وندر من خرج منهم وأغلق بابه عليه ، بذلك تتثبط همم الثوار عن نصرة هذه الحكومة التي لا تقدر حجم التضحيات والدم المسال كل يوم ، وأوروبا لم تتحول بين ليلة وضحاها من الحكم العسكري للحكم المدني بل تطلب ذلك وقتا ومراحل متعددة ، ويكون أسهل ما يكون حينما يقبض الدولة رجل قوي لفترة محددة تكفيه كي يعمل على استقرار البلاد ثم يبدأ بالتغييرات ، عندما لا يتوقع بوقوع فوضى أو الانقلاب على الثورة ، أما في الوقت الراهن فإن هذه السياسات خاذلة لليبيين ولا يمكن الاستمرار عليها.
على الثوار حسم أمرهم في اختيار من يصلح لهذه المرحلة دون محاباة ، وإلا سيخسرون المزيد من فلذات أكبادهم ، وتتبعها خسائر على مستوى الأرض ، يجب أن يقوم بهذا الأمر قائد محنك قوي وخطيب مصقاع ، يأجج الهمم ويقوي العزائم ويستنهض الخامل والمتخاذل كي يذود عن حياض دولته وأمته ، ويلخص لنا لقيط بن يعمر الإيادي في قصيدته التي سوف أذكر بعضا منها الصفات التي ينبغي أن يتقلد مها القائد لهذه الاوقات العصيبة ، وقد حث قومه على الاستبسال والصبر عند الطعان ، قالها عندما علم أن جيشا عرمرما يعده كسرى ملك فارس لأبناء قومه عندما غلبوا على سواد العراق:
قُومُوا قِيَامًا عَلَى أَمْشَاطِ أَرْجُلِكُمْ ثُمَّ افْزَعُوا قَدْ يَنَالُ الْأَمْرَ مَنْ فَزِعَا
صُونُوا خُيُولَكُمُ وَاجْلُوا سُيُوفَكُمُ وَجَدِّدُوا لِلْقِسِيِّ النَّبْلَ وَالشِّرَعَا
أَذْكُوا الْعُيُونَ وَرَاءَ السَّرْحِ وَاحْتَرِسُوا حَتَّى تُرَى الْخَيْلُ مِنْ تَعْدَائِهَا رُجُعَا
وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا
لاَ مُتْرَفًا إِنْ رَخَاءُ الْعَيْشِ سَاعَدَهُ وَلاَ إِذَا عَضَّ مَكُرُوهٌ بِهِ خَشَعَا
لاَ يَطْعَمُ النَّومَ إِلاَّ رَيْثَ يَبْعَثُهُ هَمٌّ يَكَادُ أَذَاهُ يَحْطِمُ الضِّلَعَا
مُسَهَّدَ النَّوْمِ تَعْنِيهِ أُمُورُكُمُ يَؤُمُّ مِنْهَا إِلَى الْأَعْدَاءِ مُطَّلِعَا
مَا زَالَ يَحْلُبُ دَرَّ الدَّهْرِ أَشْطُرَهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا يَوْمًا وَمُتَّبَعَا
وَلَيْسَ يَشْغَلُهُ مَالٌ يُثَمِّرُهُ عَنْكُمْ وَلاَ وَلَدٌ يَبْغِي لَهُ الرِّفَعَا
حَتَّى اسْتَمَرَّتْ عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتُهُ مُسْتَحْكِمَ السِّنِّ لاَ قَمْحًا وَلاَ ضِرَعَا
إِذْ عَابَهُ عَائِبٌ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ دَمِّثْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْيَوْمِ مُضْطَجَعَا
فَسَاوَرُوهُ فَأَلْفَوْهُ أَخَا عِلَلٍ فِي الْحَرْبِ يَحْتَبِلُ الرِّئْبَالَ وَالسَّبُعَا
مُسْتَنْجِدًا يَتَحَدَّى النَّاسَ كُلَّهُمُ لَوْ قَارَعَ النَّاسَ عَنْ أَحْسَابِهِمْ قَرَعَا
هَذَا كِتَابِي إِلَيْكُمْ وَالنَّذِيرُ لَكُمْ فَمَنْ رَأَى مِثْلَ ذَا رَأْيًا وَمَنْ سَمِعَا
لَقَدْ بَذَلْتُ لَكُمْ نُصْحِي بِلاَ دَخَلٍ فَاسْتَيْقِظُوا إِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا