خيوط ممتدّة
بقلم: د.رجب العويسي
في أحداث عالمنا اليوم ومواقفه وقراراته وتحدياته وطموحاته وتوقعاته، ما يدعونا إلى التأمل والابقاء على خيوط الالتقاء ومشتركات الاختلاف بين بني البشر ممتدة، يتعامل معها بوعي وإنسانية، ويتعاطى مع متغيراتها بصبر وحكمه ودراية وعلم ، لتبقى علامات الالتقاء شاهدة على رقي الإنسان وإنسانيته السوية، وقدرته على التعامل مع الاختلاف بمزيد من التأصيل لها، كثقافة منتجة وعمل يستدعي البحث عن مقومات اللقاء ومحددات النجاح، في ظل مؤتلف الإنسانية ومشترك الأخلاق والقيم والمبادئ والقيم النبيلة في رقيها وذوقها واستقامتها وصلاحها، والتي تستدعي من العالم المعتدل اليوم الوقوف عليها، والانطلاقة منها في التعامل مع سيل التحديات الجارف والغوغائية الفكرية والسطحية الثقافية والمعرفية التي باتت تؤججها الفضائيات المفتوحة والاعلام السلبي المساوم بمختلف أشكاله وأنواعه وأهدافه وتوجهاته، وما يثيره من صيحات الاستحالة والتعجيز في توافق العالم وتآلفه وتكامله وتناغم مفردات عمله، وتصحو بنا الصحافة، في كل يوم عن مقالات وتصريحات لخبراء ومحللين استراتيجيين سياسيين وعسكريين أجانب، تنذر بمستقبل مشؤوم، تنعدم خلاله فرص اللقاء البشري، وتتقلص فيه مساحات الاخوة بينهم، وتزداد حدة الصراعات على الموارد الامكانيات، وقد يصل الأمر إلى انقراض إمارات وتلاشي دول بعينها لتنظم إلى دول اقليمية أكبر منها مساحة.
هذا الأمر وما في شاكلته، يدعونا إلى البحث عن مساحات التقارب بين البشر، وتأكيد هذا المشترك كمدخل لتعميق روح الإنسانية النبيلة، ونثر حنين الود، ليجد العالم فيه فرصته لتدارك أخطاءه، ومعالجة أزماته، والتأمل فيما يجمع بين بني جنسه من علامات القوة، تبرز كقيمة مضافة لاستعادة الحياة في ثوبها الجميل وجهها المشرق، فالاختلاف أياً كان مصدره أو طريقته، فرصة أمل للحياة، وبصيص ضوء للتجديد، وتحضير لمرحلة جديدة، تمنح الحياة فرص الوجود النوعي والحضور الراقي، فيضع الاختلاف حياة الإنسان في قالب المراجعة والتطوير واعادة الصياغة، والتجديد وتشخيص الأمور، إنه بذلك يصل إلى منطق الخيرية في النتائج والجودة في المخرجات، ويغلّفها بثوب الثقة وتصحيح الأخطاء والتمكّن والتبصّر والاستعداد والجاهزية، والتجديد في مداخل العمل، وتحقيق التلاحم والتضامن بين القيادات والشعوب من أجل صالح الإنسان ليعيش في كنف الوطن وبين احضانه في طمأنينة وأمان وسعادة واستقرار، فإن مفهوم مدنية الانسان وارتباطه بالأخر، وحاجته الى فضيلة الاجتماع، يضع حداً للمساومة على مسألة التكامل البشري، ومنطلق تقوم عليه فلسفه الحياة وصناعة التجديد فيها، وإدخال مفهوم الإحياء النوعي لها، عبر ما تتركه من بصمات وجودها، ومن مآثر تواجدها على الإنسان، بما تفتحه له من منابر الخير، وتقدمّه له من فرص التغيير، ليصبح الاختلاف حياة متجددة للإنسان يقوم في أساسه على الوقتية ، بمعنى أنّ الاختلاف بين بني البشر إنما هو مسألة وقتية، تنتهي بمجرد البحث عن سبيل للتكامل والحوار والتواصل في حل قضايا العالم والإنسان، والتعامل معها بما تفرضه الظروف والحوال، مع المحافظة على المبادئ والمرتكزات والحقوق والثوابت، وصدق الله العظيم إذ يقول: ” ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” المائدة/ 32″ ؛ إنها ولادة جديدة للحياة، ومنعطف متجدد يضفى اليها سمة الانسانية في نبلها وصدقها واستمراريتها في ظل وجود الهدف، ومن خلال منطق الشعور بحب التنافس والتمايز والتمّيز، الذي لا يقوى الا بوجود الاختلاف في المدارك والقدرات، فتمتد هذه الخيوط وتتفاعل مع مراحل الانسان ومزاجياته، وإن المتتبع لما يعيشه إنسان العصر من فرص وتحديات؛ إنما لإبقاء حبل التواصل ممدودا، باعتباره طريق الانسان للبقاء الوقتي، وقدرته على الاستمرارية، لتبدأ فصول جديدة في الحياة، قائمة على البحث عن النوعية في الممارسة، والصدق في التوجه، وصبغ الحياة بفضيلة التصافي والتكامل، ومظهرها الراقي وسلوكها الواعي، ومنهجها الذي يتجاوز حدود الأنا والمصلحة الشخصية.
هذا المنطلق هو الذي ينبغي أن تتجه اليه السياسة الدولية والعلاقات بين دول العالم وشعوبه، وفِي التعاطي الإعلامي مع قضاياه وتحدياته، وتحليل الأبعاد الإنسانية الناتجة عن تأثير الازمات على مسارات التعاون الدولي، وتكوين مناخ عالمي يتضامن الجميع في الوصول بغاياته الى تحقيق التناغم والتعايش والحوار والوئام الإنساني، فلا قيمة لمن ينادي بقطع العلاقات، او يبحث عن فرص التهجير والتشريد وتعميق الخلاف، ويبني في ظل قناعاته مجالا للفئوية والمذهبية والمناطقية، إذ طبيعة التعايش الإنساني تحتم اليوم، وجود هذه الخيوط الممتدة من الثقة والاحترام والحوار والصدق، وترقية مفهوم المصالح بين دول العالم وشعوبه المعززة للشراكات، بعيد عن هدف السيطرة على ثروات الشعوب ومقدراتها وخيراتها، وانتزاع ملكياتها، أو فرص سياسة السيطرة والاملاءات والوصاية عليها، فإن على العالم اليوم أن يجد في أهدافه ومصالحه وتوجهاته وتشريعاته، ما يضمن بقاء خيوط العمل ممتدة ، وأروقة التواصل متاحة، تبحث عن مساحات أكبر لتعزيز التقارب والوئام، في مواجهة صريحة مع كل دعاة القطيعة والعداء للإنسان، ومن يحاولون زراعة الشوك فقط، مع أن فرص تفتح الورود ممكنة ، وأن يستفيد من التحديات الماثلة، في العمل معا، من أجل تقريب وجهات النظر لمراجعة ملفاته العالقة ومناقشة قضاياه غير المحسومة، فهل سنصنع مما اتفقنا على العمل من أجله، وأخلصنا فيه، وأقسمنا أمام الأجيال أن نحييه ونرسم وجوده في ابتسامتهم ، خيوط ممتدة تصنع لهم الحياة، وتُبقي وجودنا، مساحات عطاء وبصمة وفاء للإنسانية، أمنها، واستقرارها وتطورها وتقدمها؟