“خالف تُعرف” أقصر بوابات الدخول إلى الشُّهرة
بقلم: د. رجب العويسي
بين فترة وأخرى يظهر في الساحة الاعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي والواتس أب، من يتحّينون الفرص للبحث عن الشهرة في كتاباتهم ، ليس بعمق طرحهم للموضوعات، أو الجديّة والمصداقية التي تبرزها بين السطور، أو ما تخرج به من حصيلة تنوع البدائل وزيادة الفرص المتاحة بشكل يتناغم مع رغبة المواطن، ويتكيف مع طبيعة التحول الحاصل في سلوك الوعي والاحتياج لديه ، بل لكونهم يحاولون التسلق فوق المسلّمات، والبحث في القضايا التي تقتضي النقيض في مستساغ الناس، وتوجهات الرأي العام من أفكار برزت في ظل منظومة قوانين، حتى باتت أطروحاتهم مفهومة من قبل كل ذي لب، يعي مقاصدهم ويدرك أهدافهم ويتلمس ما يرغبون في الوصول إليه من نشوة التداول، وكسب الأصوات، وعظمة التطبيل أو التصفيق والسخرية والذم في آن واحد، على أنّ بروز مثل هذه الكتابات في أوقات معينة أحوج ما يكون فيها المجتمع إلى مسار التأني والتأمل والنظر في كل القضايا الساخنة من حوله، وتخيرّها في أوقات تركن فيها الناس إلى المعتاد، باعتباره هو الطريق الأنسب في التعامل مع الحالة، منطلق لتتبوأ فيه الشهرة مكانتها وموقعها في مسار النقيض للمعتاد، ليضعهم في موقف يفرض عليهم لغة جديدة، كاختبار لهم في أحيان كثيرة تستقرئ ردة أفعالهم، وإثارة الانتباه لها، حتى تصبح مع تعددها وتكرارها نوع من المعتاد الذي يتيح له فرص تداول موضوعات أخرى في أوقات ذات خصوصية، وحشد الناس على تداول ما كُتب أو غُرّد به، ليمارس الكاتب أو المتحدث أو غيره سلوك الشُّهرة، في ظل تكهّنات شخصية، تقوم إما على مخالفة صريحة أو ضمنية لبعض العادات والقيم والاخلاق والأعراف والمفاهيم المتداولة والمستساغة وتجاوز العمل بها، أو مخالفته لمنطق الاشياء والمسلمات وإحداث ظاهرة جديدة ليست على سبيل الابداع او الابتكارية والاستثناءات، بل لإظهار الذات وابراز المفخرة في السلوك، وحشد التأييد والتصفيق له، وتناقل حديثه أو مقالة أو تغريدته في أوساط الشباب، ليجعل من نفسه الوصي على أحوال الناس والمجتمع، ومن يعمل جاهدا على مد يد العون لهم، إذ يجد في نقطة ضعفهم، فرصة لزيادة حالة القلق النفسي والتذبذب الفكري لديهم، وعدم استيعابهم الحالة، لتضيع أوقات الشباب ورصانة الأفكار والمقترحات والردود في شبكات التواصل والواتس اب، عبر ردود غير آبه لها أو متأمل فيها، أو مستخلص لأفكار يستفيد منها في قادم الوقت لتشخيص الحالة لتكون له دليلا يبعث إلى التجديد، حتى تظهر الردود في أغلب احوالها أقرب للشخصنة وفرز العضلات والأحاديث التي قد تمس الأعراض أو تتجاوز منظومة الأخلاق والقيم، ويبقى هدف الكاتب أو المتحدث وغيرهما في كل الأحوال، كثرة الردود والتداول مقياسه الذي اتجه إليه، وطريقة لينتشر اسمه بين الناس دون تصنيف لمؤشرات الاتفاق والاختلاف والرضا والغضب، أو إعارة لأي اهتمام لوجهات النظر والأحاديث الرصينة، أو الكلمات الغوغائية التي تصدر من البعض، وفي الغالب لا يكون هناك رد من قبل الكاتب أو المتحدث نفسه، على أي رأي آخر مختلف أو متفق معه، بل قد يعمد إلى حظره أو الغاء متابعته، وهو ما يعني في أغلب كتابات الشهرة وكتّاب الظواهر الصوتية الهروب من المواجهة، إذ لا يكون منطقهم المعرفي مبني على قناعة وأدلة واضحة واستطلاعات رأي أو نتائج دراسات معينة وأطر يدافع عنها، وإنما استراق للسمع لما يتم تداوله عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو الحدس به، إذ سيكون الموقف المغاير الذي سيقدم عليه في تلك الفترة، فرصة كبيرة في الظهور وانتشار اسمه بين الناس وتداوله عبر مختلف الوسائط الاعلامية المتنوعة، في ظل واقع مجتمعي بات يبحت عن المختلف من الأشياء والمغاير أو السلبي من العبارات، يتداوله بكل سهولة ، وينشره بدون وعي، حتى وإن أظهره في ثوب التهكم والسخرية.
وعود على بدء فإن ما تعُجُّ به شبكات التواصل الاجتماعي من الباحثين عن الشهرة، والمغردين غير المحتسبين لصدق الكلمة، وموضوعية المعلومة، وغير المحسوبين للإعلام الراقي المسؤول، والذين تُتداول كتاباتهم أو تغريداتهم في أوساط الشباب، -على سبيل الاستفزاز والتهكم والسخرية، في أكثر الأحيان- مستفيدين من الظروف والأحداث والأزمات، مؤشر واضح على أن كتابات الشهرة، وكتّابها، لن تقدم ثقافة رصينة، أو تؤّصل لوعي مسؤول، بل تعيش واقعا نفسيا متأزما يشعرنا بضياع مصداقية الكلمة، وسلوك الانحراف الفكري والسلبية، التي باتت أقصر الطرق وأكثرها اختصارا لصناعة الشهرة ، وكسب المزيد من الاصوات، ليصبح منظورهم للمصطلح الدارج ” خالف تعرف” بوابة دخول تكسبهم الوقت في المزيد من المهاترات الإعلامية والسقطات الفكرية المتكررة، التي تفتقر إلى تأنيب الأنا أو حفظ ماء الوجه، إذ لا تجد المراجعة والتصحيح وإعادة النظر فيها أي شأن، لتستمر في هدفها الوقتي، لا يردعها عن تحقيقه نصح ناصح، أو توجيه عارف، أو تصحيح غيور، أو حكمة حصيف، غير مكترثين بقيم أو أخلاقيات، هدفهم تسفيه أحلام الشباب، والزج بهم في قضايا أبعد ما تكون عن أولوياتهم، مع الفارق بين أجندة وموضوعات الشهرة وأهداف الساعين لها.
إننّا علينا جميعا أن نكون واعين أيضا لمثل هذه التصرفات، وتمييزها وفتح المعلبات التي تضمّها قبل ترويجها ونشرها، فهي لن تصنع ثقافة راقية داعمة للتطوير، قائمة على الاستدامة والرصانة والتنوع في التفكير، والقائمة على الاستفادة من المنجز الحضاري وتوظيفه بالشكل الذي يخدم كل قضايا التنمية ومجالات العمل من أجل سعادة الإنسان واستقرار الأوطان وتعميق روح التسامح والوئام بين المجتمعات؛ فما هي إلا سحابة صيف تتقشع عند أول مواجهة، وظاهرة صوتية تنطفئ عندما تتكاتف جهود الجميع في كشف زيف المعلومات المغلوطة فيها، فإن المطلوب اليوم ممن يحملون رسالة الكلمة، المخلصين لأوطانهم، والعارفين بحقوقهم وواجباتهم ومسؤوليتهم، أن يوطّنوا أنفسهم، ويترفعوا عن نشر أو تداول أو التصفيق والتطبيل لهذه الكتابات أو غيرها حتى وإن كانت على سبيل التهكم والسخرية؛ فإن من كان هدفه الشهرة سيجد في صنيع التداول والنشر لها، فرصته ونشوته، التي تتجه إلى سطحية الكلمة وغوغائية الفكرة.