حين نرتقي بمطالبنا
د. رجب العويسي
في حياتنا اليومية نعيش مطالب كثيرة، ويبقى وعينا بها في قدرتنا على الوصول من خلالها، إلى مرحلة الواقعية والذوق والمهنية والاخلاق، عبر استيفائها للمعايير وامتثالها للضوابط وقدرتها على منح الحياة فرص أكبر للتناغم والتكامل، مراعية تشخيص الظروف المتسببة في تشكيلها، وطريقة الوصول إليها، وتخير الأوقات والأساليب المناسبة لها، والنظر في بدائل التحقق وامكانياتها، واستدراكها لكل المعطيات السابقة، ومراعاتها لمعايير العمل الوطنية والعرف الاجتماعي وموافقتها للتشريعات والقوانين والأنظمة، وارتباطها بموجهات المشرع الوطني، وتنوع الادوات، باعتبارها موجهات تضمن لهذه المطالب وضوح الهدف والغاية، ونبل المقصد وسمو النية ، وحكمة الطريقة والوسيلة، لتحولها من مجرد أفكار وظواهر صوتية، إلى نماذج تنفيذ ومنهجيات تطبيق، يُحكم من خلالها على رقي المطالب وواقعيتها وتلمسها للحق والعدل، وبعدها عن النمطية والارتجالية المعتادة، وتدخل الانا والشخصنة، بما يمنحها القوة، ويُكسبها فرص التأييد، ويُبعدها عن كل أشكال التزييف والتحجيم، ويرقى بها إلى مساحات الجدية والمهنية، لتبرز النتيجة متوافقة مع الأهداف الوطنية العليا، والغايات الانسانية المتسامية فوق صيحات الخلاف والقطيعة، والاستفادة من كل فرص الاختلاف في الرأي، لبناء فرص أكبر للتقارب والتكامل، بتوظيفها لخدمة الاوطان وسعادة الإنسان.
وإذا كانت مطالبنا الحياتية بمختلف أنواعها، تعبير عن حالة من الشعور بأولوية الحاجة إليها، فإن ذلك يستدعي أن تُقرأ في ظل التحولات التي يشهدها واقعنا الاجتماعي، لا أن تنفصل عنه، أو تسلك مسلكا مغايرا يضعها في قالب الاتهام أو التحريض، فإرضاء الجميع عملية غير متحققة، وفرض واقع جديد على الجميع الالتزام به بما يمثل رغبة البعض ونزعاته الشخصية غير مستساغ من أصله، وأن يجعل البعض من نفسه وصيا على أوطاننا، يحدد أولوياته بما يقترب من مسار الأنا لديه أمر غير مقبول، لذلك كانت مطالبنا اليوم بحاجة إلى إدارة فاعلة، في ظل معادلة الواقعية والالتزام والمعايير، وتوظيف المشترك القيمي والاخلاقي بما يتناغم مع طبيعة المسؤولية ودور المواطن نفسه في خدمة وطنه، وتحقيق مسؤولياته الاجتماعية، وفق قيم الذوق والأدب والمواطنة والحس المسؤول، منطلقا من المساحات التي يمنحها الفرد للظروف والمتغيرات والموارد والامكانيات، وفرص الامن والسعادة التي تحققها، أي بمعنى، أنها مطالب تحفظ الحقوق، فلا تمس هيبة الدولة، وهوية الوطن ومبادئه وسياساته، ولا تؤثر في سيادته، أو تسيء إلى رموزه، أو تنتهك حرماته وحدوده ومقدساته، أو تمس حقوق المواطنين الآخرين والفئات الأخرى، أو تسيء إليهم. من هنا باتت هذه الموجهات أحد الأطر التي ينبغي أن تبنيها المجتمعات في الاجيال، وأن يؤدي النسق التعليمي والتشريعي والقانوني والشرطي ومنظومة الضبط الاجتماعي والاعلام دوره في توضيح الصورة الايجابية، والمفاهيم الصحيحة والآليات المعتمدة في إيصال المطالب وآليات التعامل معها، وحضور هذه المبادئ والمعايير عند مجرد التفكير في صياغة عريضة المطالب الشخصية أو غيرها. لقد أدركت القيادة العمانية هذه المرتكزات وتعاملت معها بكل جدارة ومهنية، وأوجدت القنوات المناسبة لإيصالها الى المؤسسات، بالشكل الذي يضمن لهذه المطالب حسن التعامل مع معطياتها، واستيعاب متطلباتها، والتفكير معا في بناء اطار عمل يضمن لها التنفيذ السليم.
لم تعد مسألة المطالب اليوم تعني المواطن فقط، أو بالأخص مجتمع الشباب، في ظل رغبة الطموح وشغف الاكتشاف والمغامرة والتجربة لديه، فإن الوعي بفقه المطالب والقيمة الناتجة عنها في حياة الفرد والمجتمع، يرتبط بتعميق الشعور الوطني لديه، وفرص الانتقاء والاختيار الموجهة برغبة الذات، وحجم المسؤوليات، وهو عمل بات من الأهمية بمكان تقنينه في حياة المواطن وسلوكه، ووضعه في إطار تشريعي يضمن أن تتجه مساحات المطالب إلى مساراتها الصحيحة، بما لا يتجاوز سقف التوقعات المتاحة، فيكون للمطالب ما يبررها في واقعه، ويضمن لها سندا قانونيا، وفقها تشريعيا، يقيها عثرة الانحراف، أو اتجاهها لأغراض أخرى، قصد التعجيز والاحراج واملاء التوجهات واقصاء الاخر وتهميشه، أو أن تستهدف سلوكا مغايرا، يضر بأمن الوطن وحياة المواطن؛ فلقد اتسع ليصبح سلوكا عالميا، ليبرز في المجالات السياسية والعلاقات بين الدول، مما يؤكد أهمية البحث في اطار عالمي يقرأ الاحداث في واقع حياة الشعوب والمجتمعات، لبناء أطر ومنطلقات دولية واضحة تراعي مفهوم السيادة الوطنية، وحق الدول في تقرير المصير ، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير ، وخلق مساحات الثقة والتعاون بين الحكومات والشعوب، وضبط كل الممارسات التي توجه العمل الى غير اهدافه، أو تحاول أن تحورّه إلى غير مقاصده، أو تبرزه في ثوب الضعف والظلم وتثير الراي العام اليه، فكان عليه أن يراعي الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية للمجتمعات، بما يعمق منهج العمل من أجل حل الخلاف بالطرق السلمية، والبناء على المشترك ، كمنطلق في التعامل مع الأزمات الدولية، وإدارة محور الخلافات بين الدول، عبر نهج الحوار والتواصل والجدية في طرح نقاط الاتفاق والقوة في المشترك القيمي والانساني كمدخل لحل الأزمة، ومعالجة نقاط الاختلاف للوصول إلى تكامل في الرؤى ووحدة في الأهداف من أجل عالم يسوده السلام ويعيش مواطنيه حياة الوئام والاستقرار.
إننا بهذا المعنى ندرك وقبل كل شيء، أنه حين نرتقي بمطالبنا، ونعي حدود مسؤولياتنا، ونفقه كل المتغيرات التي يعيشها العالم من حولنا، ونطبق مبدأ التكامل ووحدة الهدف والمصير، سوف تتقشع أمامنا كل التحديات، وتتذلل الصعوبات التي ستكون شاهد اثبات لنا على قدرتنا على خلق تحول في مطالبنا وواقعتيها واستيعابها لكل الاطر والجهود والمبادرات والتوجهات الاقليمية والدولية الإنسانية، التي تؤسس لفقه المطالب ولغتها السليمة، وتخلق واقعا متجددا متناغما مع المعطيات المرتبطة بفكر الشباب وجوانب الاهتمام لديه، عبر زيادة المنابر الحوارية، ومنصات التواصل التي تعزز التقارب مع فكر الشباب وترقى بمداخل الحوار معه، وبناء المشترك عبر تعدد وجهات النظر، وصناعة مناخ فكري داعم للتعايش، ومؤصل للجدية والمنهجية في تناول الملفات الداخلية والخارجية للدول، واختيار وانتقاء أجندة العمل التي تدور حولها النقاشات، إذ من شأن ذلك أن يجعل من هذه المطالب مدروسة وواقعية ومختارة بعناية ومرتبطة بواقع حياة الإنسان ومصلحة شعوب المنطقة والعالم، وليست مبنية على تكهنات أو مجرد حالة صوتية لسد الفراغ وترقيع الخلل .