ماذا يعني أن تكون إعلاميا؟
د. رجب العويسي
سؤال يطرح حضوره بقوة في الساحة الاعلامية، في ظل مرحلة باتت تنظر للإعلام في غير هدفه، وتسخّره لغير غاياته، وتوجّهه لمسارات أخرى تفتقر لمعاني الإنسانية في شموخها ونبلها وسموّها وتساميها فوق كل صيحات الاغتراب الخلقي والاختزال القيمي، فحقيقة عمل الرسالة الاعلامية، أنها رسالة خير موجهة لصالح الانسان والتنمية، وتصّب في هدف الارتقاء بإنسانيته وتعزيز كرامته، في ظل قيم الحب والوئا،م والتواصل والسلام، والتنمية والتطوير والوعي، وما تبنيه في الأجيال من آمال وتفاؤل وايجابية، وقناعات بمستقبل مشرق، تتلافى عندها حالة المزاجية، والشعور بالإحباط وحالات التذمر والضيق، والتنكر للحقائق والهروب من الواقع، أو حالة التزييف التي يعيشها انسان العصر في كثير من بلدانه، عبر ما ولّدّه الخطاب الاعلامي من ثقافات متناقضة، وحوارات مسيئة ودخوله في قضايا خلافية تستنزف طاقات الشباب، وتبرزهم في ثوب المظلوم ومن له حق الاقتصاص والثأر من الحكومات، دون مراعاة لحق الأوطان، أو استجابة لضمير المسؤولية، فوُجهّت قنواته الفضائية وصحافته وسخر المتحدثون الاعلاميون ووحوش الشاشات، نحو اثارة الاحقاد والكراهيات، والنبش في قضايا خلافية ومذهبيه وطائفية، سعت للتأثير في عقول الشباب بأفكار واهية، ومعلومات مزيفة وإعلام هابط رخيص يركز على الدنية من السلوكيات، يمحو قيمة الأخوة ، ويتناسى كل لقاءات الود وتصريحات الشجن والتواصل في الزمن السابق، ويعكس حالة من الانفصام في شخصية الاعلام عامة، والاعلامي بشكل خاص، عندما تضيع هوية رسالته بين أدران الذاتية والاقتصاص والتملق، يتخلى عن منظومة القيم التي توجهه، والاطر التي تحدد معالم عمله، بحجج واهية، وتصرفات عقيمه ، وموجهات تتنافى ومنظومة الاخلاق والقيم ، وتتجافى ومسارات العمل من أجل الانسان واحترام وجوده، وتقدير كفاءته ، فيصبح كالدمية تتنازعه الأهواء، وتحركه الأشخاص، فيُظلّ بعقله، ويُظلّل بعمله فيصبح هدفا يُنال به الطُعم، ويُثار بسببه الخلاف، ومدخلا لترويج الإشاعة، وإبعاد الناس عن أولوياتهم، وليته لو آمن بالمشترك القيمي والمؤتلف الإنساني، فبنى عليه مرحلة متجددة من العمل المسؤول، فرسّخ عادات ومبادئ الرسالة الاعلامية، والتزم بها واتبع هداها، وتمسك بزمامها، في إدارة قضايا العالم وأحواله بكل مهنية ومصداقية، ليتجاوز بوحه وقلمه كل أشكال الخلاف والتنميط الاعلامي، فتقوى مسألة الثقة، وتنمو مهارة الريادة الاعلامية لديه.
إن قدرتنا على الاجابة عن التساؤل، وامتلاكنا بدائل وموجهات العمل، وثقتنا بأنه يمكننا أن نُعيد رسالة الاعلام، إلى هدفها الذي جاءت من أجله، وغاياتها السامية التي برزت في سبيلها، هو ما يقينا حجر العثرة، وشبهات الزلة، وينّبهنا لمكان الخطأ، ويبصّرنا بموقعنا في هذا العالم الواسع، وكيف لنا كإعلاميين حاملين قضية أمة، أينما كنّا، وتحت أي مسمّى إعلامي، وفي أي موقع ، في إذاعة أو شاشة فضائية، أو جريدة، أو صحيفة الكترونية أو غيرها، أن نترك بصمات التفاؤل مفتوحه، ومحددات الانجاز ماضية، لتلمس الواقعية في القول أو الفعل في ظل ميزان الحق والعدل، ومقاييس الموضوعية والشفافية والصدق، بما يضمن قدرتنا على تحديد معالم هويتنا الاعلامية، التي تنير لنا درب الكلمة، وتثبت لنا مصداقية المعلومة، وقدرتها على الدخول في عالم المنافسة والقراءة والاقتباس منها ، لتُضخّ في البناء الفكري للإنسان، والتطوير المنهجي لمسارات التنمية، وتعميق منظور التفاؤل والايجابية والموضوعية التي تقرأ العالم واحداثه بموازين وموجهات تبني لنا حصون السلام والوئام، وتخلق لنا مساحات أكبر للتأمل، في ظل احترام أفكار الآخرين، وعدم مصادرتها أو اقصائها، واختيار نوع الكلمة والصورة والعنوان، بعيدا عن الاساءة أو تشويه السمعة أو التنقيص من أحد، أو التشهير به، إلا في ظل ما يجيزه القانون، فتتجه الرسالة الاعلامية لحمل هموم الشعوب وطموحاتها، وتبني آمالها، ويقدّم مداخل تطورها في ثوب التسامح والوقار، وهيبة الكلمة ومصداقيتها.
فأن أكون إعلاميا، فأنا مسؤول عن صدق الكلمة، وما تحمله من فرص الخير والأمن والاستقرار والتكيف مع الواقع وقراءة مسوغاته، والاجابة عن تساؤلاته، تصنع التجديد وتبني الجديد، وتتعمق في المغزى، وتقرأ حكمة المعنى، فتسمو في سماء القيم، وتنمو في عرين الصدق، وتبرز في ثوب الحكمة، وتنشط في قوة المبدأ، وتنافس في احترافية، وتشخّص لتبدأ قصة التجديد، لن يأفل بريقا، أو يذهب لمعانها، أو يخفت صوتها، أو تضيع هيبتها، فمصداقية الكلمة عهد، والاحتواء بها مدخل يقيني العثرة وسوء التصرف، لتكون بمثابة استراحة محارب لنقل صوت الحكمة، في مقارعة اصوات القطيعة والتهديد، لتبقي الخيارات الراقية مفتوحة ودلائل العمل بارزه، وشواهد العطاء مثبتة، فتبقى الحقيقة وإن كانت مرة ، قوة صامدة في وجه كل أشكال الترف والاستنزاف الاعلامي الواهن في ضعفه، أحمل رسالة السلام والوئام للعالم أجمع في صدق الكلمة ومنطق الحوار وتقبل الراي الاخر والاستماع لوجهات النظر، وعرضها في ثوب التوازن والحكمة، دون إجحاف في حق أحد ، بعيدا عن الذاتية المفرطة، أو المدح المذموم، والاعجاب السلبي الذي يقتل أمل التجديد، أو يُضعف مقصد التغيير، أو يهمّش روح المبادرة والعطاء، فتكون القراءات متجاوبة مع الحق والعدل، داعيا إلى التضامن ، عاملا بمنهج التقارب، آخذا بيد الجميع نحو بر الأمان.
إن مسؤوليتي كإعلامي أن اقرأ بوعي كل التجاذبات، وأدرسها وأمحّصها في ميزان الموضوعية والاعتدال، ومنهج البحث والتقصي، ملتمسا الدليل، وليكن اتجاهي حيث وافق الحق والعدل، والتزم الموضوعية والصدق، وارتبط بهويتي الانسانية الراقية، التي تحمل الاخلاق نهجا تطوف به في سموات الأرض المفتوحة، لتكون كلمتي في فقه وعي، وحسّ نبض، وروح معطّرة، بثبات الكلمة الطيبة، ولتكون الصورة المعبرة ، تنم عن حس مسؤول وإدراك لما بين السطور، وقراءة متجددة لعالم جديد يصنعه الاعلام المحترف الصادق، فيبني في ظله الأرض خيرا وسلاما وأمنا وأمانا، فلنجعل من رسالة الاعلام طريق خير للبشرية تستشرف فيها آفاق المستقبل، وتبني خلاله محطات العطاء، وتتشارك فيه قيم الحياة الجليلة المتجاوبة مع الفطرة السوية، إنني كإعلامي أحمل رسالة صدق، لينجلي عن العالم الظلم والحزن والألم والقهر والشتم والسبّ، لتفتح له آفاق الكون، تحمل همّه، وتبني أمله، وتأخذ بيده، وترقي بفكره، فيبقى بصلابة مبدأه، وقوة منهجه، وسمو خلقه، وسماحه نفسه، إبهارا للعالم أجمع، بأن لا يدنّس فكره أي تجاوز أو مهاترة أو مخاطرة غير محسوبة او غوغائية تنال من كرامة الأوطان، او اجتهادات وفتاوي، تفسد الحرث والنسل، لتشكّل بابا تترادي فيه نخوة الأمه إلى القُعر، فوطنّوا أنفسكم، وانهضوا برسالتكم، وابنوا عليها آمال الضعفاء والمشردين، إنكم بثباتكم تدخلون التأريخ من أوسع أبوابه، وتسجلون بصمات لن تنساها الأجيال، فتبقى في الذاكرة عنوانا يحمل السلام، فهل أنتم مستعدون لذلك؟