افتحوا المعلّبات قبل ترويجها
بقلم:د. رجب العويسي
لعل ما يبرزه واقعنا نحن الشباب واهتمامنا بترويج المعلّبات الفكرية الجاهزة، وشكليات العناوين البراقة المصحوبة بالسلبيات والتهكم والسخريات، نمطا فكريا خطيرا، وسلوكا سطحيا نحو التبعية العمياء، وتحجيم دور العقل والتفكير الواعي، في إدارة معطيات التحدي الفكري الذي يعيشه عالمنا المعاصر، وهو نمط يفتقد لذائقة الجمال الراقي، ومعيار المروءة والاخلاق السامي، وحماقات نرتكبها بدون توقف، وسلوكيات نتنافس فيها بدون خجل، حتى أضعنا أنفسنا في متاهات البحث عن موقع لنا نعيد فيه قوتنا وهيبتنا فلم نستطع، فقد دنّسنا أنفسنا بما تناقلته أيدينا عبر سوء استخدامنا لشبكات التواصل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة وتطبيقات الهواتف المحمولة، فلم نرحم أنفسنا، أو نحترم قيمنا، وأقنعنا أنفسنا بأفكار جزمنا أنها فينا أو تُهمٌ ألصقناها بأوطاننا، فأصبحت مستساغة لدينا، فضللنا بفعلنا وأضلنا غيرنا، وانعكس ذلك كله على تعاملنا مع الاشاعة، ونظرتنا للمعلبات الفكرية التي تصل إلينا أو نستوردها، أو يصنعها البائسين والباحثين عن الشهرة أو المنتظرين لحجم الإعجابات، ليصبح ثقافة يتقمّصها الكثيرون منا، برغبة أو مجاملة أحيانا أخرى، ولكنها ستظل قناعات وأفكار تنتشر مساحات العمل بها، وتبرز تأثيراتها ونتائجها بحجم ما أعطيت من اهتمام وتداول بيننا، فإن لمحتوى هذه المعلّبات وقت انتهاء صلاحية، عندما تفسد العطاء، وتتجاوز القانون، وتخلق الفوضى، وتسيء للوطن، أو تحاول أن تبحث عن مسارات تصطاد فيها ما يحلو لها ، وتغتنم فرصة قلق الشباب وحيرته وبحثه عن العمل أو انتظاره للوظيفة، لتهمس في سمعه وتأخذه إلى عالمها وتسيطر على فكره، لقد كتبنا بها على أنفسنا حياة البؤس ، ورجعية التفكير، ونمطية الاستيعاب، فاجتررنا كلماتها وأعجبنا بتعبيراتها، حتى استفحلت في النفس وقويت في اللسان فضاقت بنا الحياة، وضيقنا على أنفسنا فرص العطاء، والاستمتاع بالنجاحات التي تحققت لنا ، لقد قنعنا أنفسنا أننا نعيش في عالم سريع التغيير مشاع المعرفة، وما دام الأمر كذلك فعلينا أن نسير في الركب إن أساء الناس فليس لنا من الأمر إلا الإساءة مثلهم، ولأنهم الكثرة فما كانت الكثرة تجتمع على ضلاله ، فقمنا بنشر كل شيء، وتناسينا المنهج النبوي القائل ” وطنوا أنفسكم … الحديث”.
لقد غابت عن اذهاننا فكرة التمحيص لهذه الأفكار، وما تسطّره في صفحاتها وبين سطورها من مساوئ أو خربشات تبحر في قعر الكراهية والحقد للوطن والإنسان، فألزمنا أنفسنا مسؤولية نشر الافكار المبطّنة الجاهزة، والانماط الفكرية المعلّبة، واثارة فرص التضليل وتغييب الحقيقة، حتى وان كانت تفتقد لخصائص الجديّة، أو تبتعد عن روح المسؤولية، أو تتنافى مع مفاهيم الذوق واحترام المشاعر، أو تتجافى مع منطق العقل، أو تتعارض مع موجهات النقل، أو تتباعد عن مستندات النص، فاتبّعناها بلمح البصر، وتعاملنا معها بدون بصيره، فأوجدت في سلوك بعضنا الغوغائية والهلوسة الفكرية، وأوهمتنا بمساحات الحرية العمياء التي ستكون لنا جزاءً ومصيرا، حتى وإن شوهنا حقائق الإنجاز، أو ضيعنا فرص العطاء، لتحمل ابواقها ناكرة للجميل، واقفة في وجه المعروف، ضاربة بوجه الحياة المشرق وإنجازاتها المخلصة عرض الحائط، فأصبحت حياتنا ترديد الأفكار السلبية، والتطبيل على المعلبات الفكرية منتهية الصلاحية، عديمة الفائدة الحسية والمعنوية، يخوفوننا بقادم محزن، وبمشكلة اقتصادية لا تنتهي، وبأزمة مالية خانقة، وبمستقبل مشوب بالحذر وعلامات اليأس ، فضاقت بمثل هؤلاء الارض، وحكمت كتابتهم على حياتنا بالإعدام، ونسوا من بيده خزائن السموات والأرض .
وهكذا تظهر كل يوم مزامير تغني للهوان، وترقص للضعف، وتبارك للفشل، وتصّفق للانتكاسة، وتحقّر من قيمة النجاح، وتقلل من عظمة المنجز، وتقارن في ظل عدم تكافؤ، وتتقّول من غير دليل، وتنحاز من غير تريث، فبدأ الشباب في حالة من الارتباك نظرا لشيوع هذه الكلمات ، في رسائل المساء والصباح، حتى أدخلنا أنفسنا في دوامة هدفهم، بتقمّصنا دور المسوّق لأفكارهم وكتاباتهم بمحض ارادتنا ، إنها هلوسة الذات عندما تنظر إلى الجزء المظلم في الحياة، لقد أوهمونا بأنهم يقومون بدور الإصلاح ومقارعة الفساد والإفساد ، في حين أنهم يمارسونه، بما ينشرونه من أفكار تتجافى ومضامين صون كرامة الانسان وحفظ حقوقه، فأفسدوا قيم الناس واخلاقهم وأضافوا إلى واقعهم ثقافة السلبية واختزال التنمية، فإن ما تحمله هذه المعلبات من أفكار الحرية المطلقة والفوضى المجحفة في حق الإنسان والتنمية، الداعية الى تجاوز القانون أو الناقمة على النظام، فتصطاد في الماء العكر عبر إلهاء الشباب عن قضاياهم الكبرى واولوياتهم واهدافهم المصيرية، ليبحثوا عن رصيدهم في الكلمات النابية أو الأفكار الضيقة أو الطموحات الوقتية والاحتياج القائم على الأنا في التفكير، واشغال الشباب بالتفاهات والردود والمجادلات الوقتية التي تضيّق عليهم نوافذ الأمل، وتقلّل فيهم دوافع العطاء ، منعطفا خطيرا في ثقافة الشباب، ينبغي البحث لها عن أطر تصحيحية ومراجعات جدية تنطلق من التفسير الديني السليم لها، وتوحيد لغة الخطاب الوطني بشأنها، ورسم صورة مكبرة لطرق التعامل معها واحتواء وتوجيه المتسببين فيها، والاستفادة من قصص النجاح وترقيتها وتوسيع مساحات الود والحوار في ربط إنسان هذا الوطن بمنجزه الحضاري .
إنّ وطننا بحاجة إلى الأقلام المجيدة الواعية الداعمة للعطاء، كما هو بحاجة إلى الاقلام المشخّصة لواقعه بموضوعية ومهنية، وأن تتجه الكلمة- أيا كان مصدرها أو طريقة نشرها – الى البحث عن مساحات التجديد والتطوير والقوة ، مستعينين بمنهج الاخلاص ومراجعة الذات وتقييم الانجاز، ومصداقية الكلمة، والتسامي فوق الاساءة والتعميم والاحكام المسبقة ، فإن كثرة المصفقّين والمطبّلين والمروّجين لبعض المعلبات الفكرية، والأقلام المسيئة الى الوطن والمواطن، لن ٌتنسينا حق وطننا، أو تٌلقي بسوادها على ذاكرتنا الوطنية الجميلة، كما لا نتوقع بأن تبني فينا مداخل للتجديد، لأنها معلبات منتهية الصلاحية لا تثبت أمام انجازات وطني الخالدة، وقيم وأخلاقيات الأمة العمانية المجيدة، لن يكون لهم ما أرادوا، فأبناء عمان وطن للعطاء، وشموخ للإباء، ومثال للتضحيات، وثقة في المسؤولية، وصدق في الكلمة، وموضوعية في الرصد ، فلنكن لوطننا وطنا يحتوي زلات المخاطرين بعظمة الكلمة والمسوقين لفتاتها وزبدها، ولنقف في وجه كل صيحات الاغتراب الفكري التي يعيشونها، في حين أننا نعيش النعمة، ونلمس الفضل، ونستظل الأمن، وتحتوينا السعادة.