هل يجب أن نكون ظاهرة صوتية؟
بقلم:د. رجب العويسي
يطرح سؤالنا في هذا المقال جملة من المعطيات التي ينبغي الوقوف عندها، ورصد مؤشرات نتائجها على واقع الأداء المؤسسي والشخصي، ويعرّج على شواهد حية، اعتمدت عليها نهضة عمان الحديثة في تعاملها مع هذا المنطق ، ولعل حوار حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم مع رئيس تحرير جريدة السياسة الكويتية، منهجيات عمل رسمت لنهضة عمان طريقها، لتؤكد على أهمية توطين النفس والاشتغال بجودة المنجز وجوهره، كشواهد اثبات أوضح من أي بيان، وأصدق من كل مقال، وأثبت في النفس من أي حكاية، وقد ورد ما نصه: ” … وانا بالنسبة لي, الاطراء الحقيقي هو ما اشاهده من عمل حسن عندما ارى اننا نعمل, وان نتائج عملنا مفيدة, والناس تحس بذلك.. هذا هو الاطراء الذي تتقبله نفسي, فلا وقت عندي إلا لسماع كيف يمكن ان نعمل بشكل افضل, وكيف نفيد الناس وكيف نفيد هذا الوطن, ».
إذ بهذه النُهُج تفوقت نهضة عمان الأبية الشامخة، التي قامت على أكتاف التضحية والصبر، والعمل والمسؤولية، قوامها الايمان وسلاحها العلم والعمل، ومعينها الارادة التي كانت تنتظر النور وتترقب الصبح ، فأشرقت على عمان شمس السلام والحضارة من جديد، لقد قاد حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم دولة عصرية، وقدم للوطن وللإنسان أسمى قيم الصدق والثبات والعطاء والولاء والانتماء والحب والمواطنة، وأعظم صور التضحية والفداء لعمان الغالية – بأبي أنت وأمي سيدي صاحب الجلالة- حفظكم الله- فشمّر الرعيل الأول للنهضة عن ساعد الجد، وبنى مع القائد الملهم دولة المؤسسات، إنطلاقا من مبدأ الكفاءة التي جمعت بين صدق التوجه وحس المسؤولية وسمو الارادة ، فارتقت فيه سلّما، وارتسمت لنجاحه منهجا، وهي تلك الجنود المجهولة في الظاهر، الحاضرة في الوجود الوطني بعطائها وإخلاصها وإنجازها، فاستحقت بذلك وسام التكريم، وارتقت معالم عطائها حتى امتلكت خلالها ناصية النجاح، وتحملت صنوف التحديات، فتعاملت معها بكل مهنية، وأدارتها بروح عصرية وفق منهج رصين، ومسارات تنشد التقدم وتحتوي الكفاءة، صامدة في وجه كل أنواع الاحباطات وحوائط الصد، فالوطن هدفها الذي ترسم منه خريطة الانطلاقة نحو الهدف وبلوغ كماله، فأعطت بلا توقف وأنجزت بلا حدود، تبنى في مناخات العسر والشدة نافذة الأمل وفاتحة السعادة.
ومع كل هذا الإنجاز والعطاء الذي يتجاوز الوصف ويبهر كل ذي لب، كان الصمت رديف العطاء، ولغة العمل التي حققت الكثير من الإنجاز، وتركت بصمة قوية لأجيال الوطن لن تأفل ما دامت السموات والأرض، ونقلت المنجز إلى صورة الفعل الملامس لحياة المواطن، فارتبط المنجز بنواتج التطبيق، وتعميق حجم الاستفادة منه، واستلهام معاني الولاء والانتماء والهوية والمواطنة فيه، وكيفية توظيفه بشكل أكثر فاعلية وكفاءة واستدامة على المدى البعيد، وتعزيز الشعور الايجابي والوعي بمتطلبات التعامل معه بعيدا عن المزايدات الاعلامية أو الفرقعات الصوتية، إذ الهدف جودة الإنجاز، والتأكد من وصوله للمواطن، ليبقى أثره على حياته المعيشية واستقراره وتنميته، ليكون المنجز هو من يتحدث عن نفسه، وآلية العطاء هي من تفصح عن حقيقة المنجز وحجم المشروع المنفذ.
ومع التطور الحاصل برزت إلى السطح مسألة الظواهر الصوتية، التي لم يكن لها حضورا لدى الرعيل الأول للنهضة، حتى بدت اليوم ظاهرة تتطلب المزيد من الفهم والقراءة لتجلياتها في عالم المؤسسات، إذ ليس ارتباطها بجانب الترويج والتسويق المؤسسي، بقدر ما هي ممارسات شخصية تتطلب تكاتف الجهود نحو توجيهها لصالح الأداء ومنطق العمل المخلص، حتى أضحى من الحيرة إدراجها تحت أي مسمى، هل هي جزء من الواجبات المهنية لكل اختصاص أو تخصص أو وظيفة، أم أنها مبادرة ذاتية وممارسة فوق التوقعات، فتحولنا في فهم واجباتنا إلى ظواهر صوتية اعلامية، نتحدث أكثر مما نفعل، تبهرنا اللقطات المصورة عبر كاميرات ثلاثية الأبعاد الرقمية، أو كاميرا الهواتف الذكية، والبحث عن موقع لنا في صور الزيارات أو اللقاءات أو الاجتماعات أو المتابعات، أكثر من انجاز هدف المهمة، أو إبراز نتيجة العمل المنتظر تحققه، ليكون لنا سبق النشر لها في الصفحات الشخصية عبر شبكات التواصل الاجتماعي قبل الاعلام التقليدي ذاته، فلم يعد للهدوء أي حضور في واقعنا الشخصي، ولم يعد للصمت قيمة، بل يبهرنا التصفيق والمديح والثناء، حتى وإن كنّا لا نستحقه، فالأهم حضورنا في الصور، فتحول الأمر إلى ظاهرة مقلقة للذين يُحسنون الظن بأوطانهم، ويجدون أنفسهم صغارا أمام عظمة الأوطان واستحقاقاتها، بل لم تعد مسألة الظاهرة الصوتية مقتصرة على لقطات الصور، وهوس التصوير، فاتسعت لتشمل الصوت نفسه، فالبحث عن المتكلمين والمتحدثين والمنظرين ومن يتصنعون الكلمة ويتقنون لغة المديح والمجاملة ويتحدثون بقوة ويكثرون الكلام، ليكونوا في مقدمة الصف، ولهم الأولوية على من كان الصمت حليفهم والعمل هدفهم، فأصبح الاعجاب بالمتحدث أكثر من الحديث نفسه، وأهم من المنجز، ظاهرة ينبغي إعادة النظر فيها، في ظل معايير الكفاءة، ومنطق ثقافة العمل المسؤول، وتأسيس القيادات وصقلها، حتى لا تتحول منظومة الأداء إلى ظواهر صوتية رنانة، تفتقد حس العطاء والانجاز، وتجيد لغة التملق والسرد.
ومع ذلك فإننا نعيش اليوم نماذج مضيئة وقصص نجاح رائعة، سطرتها بعض قطاعات الدولة وأجهزتها الشرطية والأمنية والمدنية، فعززت حضورها في المجتمع، واستحقت تقدير المواطن والمقيم، وانتهجت سياسة التطوير المبني على الاحتياج واستشراف التوقعات، وقراءة موجهاته بأسلوب يقترب من إنسان هذا الوطن، والبحث عن إطار التميز عبر شموخ المنجز وقدرته على التعبير عن ذاته وكسبه ثقة المواطن، وهي تعمل بكل مهنية وصمت مع جاهزية واستعداد، فلها منا كل التقدير والتحية، فليكن انجازنا هو من يتحدث عنا، ولنعطي المخلصين المجهولين خلف الستار فرص أكبر للعطاء ومواقف التجربة، فعمان تحتاج إلى المخلصين الذي يمتلكون استراتيجيات عمل فعلية، ومنجز نوعي يتحدث عن نفسه.