مشاعر ضائعة
بقلم:د. رجب العويسي
كم هي المشاعر مساحات ود لا تنقطع، ومسارات من التفاؤل لا تنتهي، تحرك مسارها الامنيات، ويرقى بها صدق الكلمات وإخلاص النيات، تصفو فوق الكدر، وتتعالى فوق الخلاف وعندما تنمو في بيئات العطاء يزداد بريقها فتزهر ورودا، وتسكب قطرات الحب النابع من منابت الصدق المخلصة، بيد أنها لما تضيع في خضم المغالطات وتصبح مسألة تصفية حسابات، ولا تجد من يأخذ بها في واقع العطاء ومواقع الانجاز ومسارات الأداء، تصبح أضغاث أحلام مبددة تبحث عن وطن يحتويها بإنسانيته الراقية ، مشاعر ضائعة وأمنيات واحلام مغتربة، تائهة في خضم الاحداث المتعكرة بمزاجيات البعض، ومعايير الموازنات الخاصة والمكاسب الشخصية، فلا تجد من يأخذ بيدها إلى بر الأمان ويرقى بها فوق مساحات الجمال، ويفتح لها نوافذ الآمال.
لم تكن المشاعر مجرد أطياف عابرة يقيمها من ائتمنهم الوطن على حرماته وكلفهم برعاية حقوق إنسانه، بحسب حاجتهم اليها أو تلميعها بحسب أجندتهم وطموحهم فيها ، بل هي حياة متجددة، وجسر أمل لا ينقطع من التواصل والاستمرارية والتفاؤل ، فكوننا بشر نحتاج إلى من يحتضن مشاعرنا ، يقدر إنجازنا، يبادر لإسعادنا، يطمئن على عطائنا، ينتظر ابتسامتنا، إذ بهذه المشاعر ينتج التغيير، ونقطف ثمار الجهد، وتبرز القيمة والأخلاق في أرقى مستوياتها وأدق فرص ارتباطها بالممارسة، لتغير وجه الواقع، وتلبسه حليته المتجددة المرصعة بثوب المرؤة والحياء والصدق والصفاء والنقاء، اجلالا لقيمة الانجاز ووفاء للمخلصين والناجحين من أبناء وطني، إننا بحاجة إلى مشاعر تنبض بالحياة، وتتمسك بالحياء، وتتبني الصدق، وتهمس بالعطاء وتمجّد الاخلاص، وتبني في نفوس المخلصين فرص التنافس من أجل الوطن والإنسان، وتحقيق السعادة وهي ترفرف على الأفئدة مبشرة بغد جديد مشرق، تبني فيه القدرات والاستعداد لتُروي المؤسسات بعصارة أفكارهم، ونبل مشاعرهم، وسمو حبهم وصدق انتمائهم ، لذلك كانت المؤسسات بحاجة إلى أن تصنع فيها المشاعر وتدار فيها برامجها، كما تصنع القدوات، وتؤصل التفاؤل كما تؤسس القدرات، لتصبح صناعة المشاعر في المؤسسات سلوكا متقنا، يعيه المسؤول ويدركه متخذ القرار ويلتزم به من ائئتمنه الوطن على خدمة المواطن، محكوما بأنظمة واضحة ، واستراتيجيات أداء مقننة ، ومنهجيات دقيقة ، تؤسسها أخلاقيات العمل وتؤكدها القوانين والتشريعات، وتبرزها رسالة المؤسسات، وتترجمها مسؤوليات الأفراد في كل مواقع العمل وأنشطة الانتاج، إذ بدونها تصبح المؤسسات فاقدة المشاعر ، جوفاء الشعور بالآخر، منعدمة الاحساس بالإنسانية، فتأخذ معها بريق العطاء، وتبقى مساحاتها فارغة مشحونة بالأحقاد والكراهيات وأنماط التهميش والاقصاء، وحالات التذمر واللاستقرار ، ويمتد ذلك إلى طريقة اتخاذ القرار وأسلوب الاختيار والترشيح للتكريم أو المكافأة، وتبدوا المسألة في وضع آخر، تفتقد حس العدالة وقيمة العدل.
من هنا كان الاهتمام بالمشاعر تحول في مسار العمل بالمؤسسات، ونهضة في وجه التسلط، والبيروقراطيات، وإقصاء لجنون العظمة، إنها مسار جديد ينهض بالعطاء ويسمو بالإنجاز، فما أجمل مشاعر الصدق والاخلاص وحس المواطنة والشعور بمسؤولية بناء أرصدة النجاح بالمؤسسات بتجديد طاقات الكفاءات ورسم ابتسامة الانجاز، وهي تشق بحر العطاء بائن ربها راضية مرضية ، تجد في أروقة المؤسسات وفي مكاتب المسؤولين ، ومستندات العمل، والاجتماعات والحوارات والخطط والتوجهات والممارسات، طريقها نحو التغيير، وسبيلها لوحدة الرؤية وتنفيذ الرسالة، وترجمة القيم والاعتراف بالمنجز والتقدير للتميز، فتنبع مساحات الحوار فيها من أرصدة الاخلاص التي تزين لغة الخطاب، وتؤطر منهج العمل، وتعكس روح الأخوة والألفة والفريق الواحد من أجل الجودة، فتصبح مكاتب الإدارة أبواب تفتح الآمال، وتبني الاحلام وتتعاطف مع روح الإنسان التواقة لشرف العطاء ، لتنزل بهم من برج الانانية والمصلحة الذاتية إلى رصد مشاعر المخلصين، في بريق صفائهم، وحس ايمانهم وصدق مشاعرهم، ونبض وفائهم، لتصبح المشاعر منهج عمل تضبطها القوانين وتؤكدها المعايير، من أجل اثبات وجود فعلي للقادرين على العطاء، والمتساميين فوق صيحات اغتصاب الأذواق، من أولئلكم الذين يقفون في وجه تحقيق الآمال ، المضيعين للأمانة والمسؤولية، عبر سلطة المكاتب أو سياسه غلق الأبواب، لتتأكد حاجتنا إلى المشاعر وعمق التواصل وصدق النيات التي لا تدنسها الكبرياء، أو تضيعها النظرات الضيقة، فتحبس أنفاسها.
إن مؤسساتنا بما تحمله من عطاء الانسان، وتستشرفه لمستقبل الوطن، وتبنيه من توقعات التنمية، وتسخره من موارد لبناء مسارات السعادة وتحقيق أرضياتها، بحاجة إلى أن تضمن في إدارتنا لها نموا للمشاعر، واحتراما للإرادة، وتقديرا للنماذج المضيئة ، وتفعيلا لدور المواهب ، وتنمية لحس الوعي، ونقلة نوعية لضمير المسؤولية التي تنظر في كل ذلك، بحس الوطن وقيم الفضيلة ، وامانة المسؤولية ، فنحن بحاجة إلى إدارة للمشاعر واعادة صياغتها في قالب جديد تعلوه حكمة التصرف، وقوة الارادة، ونبل الصفات، وسمة الوقار، فلا تركن إلى رغبة فرد، بل تكون قواعد للتعامل ومنهجيات للعمل، نحتاج أن تكون المشاعر حاضرة في قراراتنا دفعا للمضرة ، ولتأثيرها السلبي على مشاعر من ظلمناهم، أو أخلفنا الوعد معهم، أو حاولنا تعطيل طموحاتهم، أو أوجدنا العراقيل في تقدمهم، نحتاج الى أن تكون مشاعر الانسانية الصادقة ، حاضرة في ثقافة مؤسساتنا، تلك المشاعر التي تبني المودة، وترسم البسمة ، وتنتج التقدم، وتلبس ثوب العطاء، وتعزز قوة الانتاجية، وسلوك الالتزام، وتنشر العدالة، وتعين الحق وترسخ المسؤولية، وتصفي النفوس وتنير درب العطاء، وتعظم من قيمة الكفاءة وتبني الاحلام واقعا عمليا ، فكم من كلمة طيبة أنبتت عطاء يصعب وصفه أو إختصاره أو حصره ، كم غيرت من سلوك وعدلت من ممارسة وأبرزت جديدا، وأنتجت مجيدا، فما أعظم المشاعر عندما تنتهج الصدق وتؤصل القدوة، وتتقارب مع روح العطاء، وتتفاعل مع منظومة التشريعات والقوانين، وتتناغم مع ثقافة المؤسسة، وتبرز فيها قيم المسؤولية وترتقي قيم الممارسة وحسن التعامل، والحرص على احترام انسانية الاخر ورعاية مشاعره، وعدم تبديد طموحاته لأسباب واهية ومسارات متناقضة مع ضمير المسؤولية وصدق العمل؛ وعندها سوف نضمن لمؤسساتنا حياة ملؤها الحب والانتماء، والصدق في أعمالنا وبعدنا عن الاساءة للمخلصين والناجحين ، ولأنها كانت مشاعر جوفاء من مساحات الصدق وأرصدة الأمانة، فقد انحسرت نتيجتها ، وبدت مساحات المشاعر فيها، ضائعة تبحت عن وطن يستوعبها وبيئة تحتويها وإنسانية تؤصلها، في منهج القدوة وسلوك الوعي والحرص على بناء الذات المتفائلة المنتجة.
فابحثوا رعاكم الله عن المشاعر في ضمير مسؤولياتكم، فإنها تحمل لكم خيرا عظيما، ونورا مبينا تهديكم الطريق، وتجنبكم مسالك الزلل، وتقيكم عثرة الذاتية، وتبني فيكم أرصدة الصدق، فإن مؤسساتنا التي تنبض حيا ووفاء واجلالا واعترافا بصنيع انسان هذا الوطن الغالي وتعترف بحكمته وحنكته وقوة ادائه وعظم مسؤولياته، تحملكم مسؤولية من يحفظ لأبنائه حق إنسانيتهم ومشاعرهم، فإنهم أمانة ين أيديكم” إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وان اسأتم فلها”، الاسراء /7