المقالات

تقسيم سوريا بين الحلم والواقع

بقلم : جمال بن ماجد الكندي

مسألة تقسيم سوريا حلم راود ويُراود القوى الاستعمارية الإمبريالية في المنطقة، ومعها الكيان الصهيوني، وله واقع على الأرض إما أن ينسجم معه أو يخالفه، وهذه المخالفة تنبع من المجتمع السوري نفسه الذي يصنع هذا الواقع لأنه يدرك تبعات تقسيم سوريا إلى دويلات صغيرة يكون قرارها السياسي والعسكري ليس بيدها، بل بيد من قسمها واحتمت بظله.

بدأت مقالتي بهذه المقدمة لسرد سرديتين؛ إحداهما حصلت في الماضي، والأخرى تحصل اليوم، وكلا السرديتين يُراد منهما تقسيم سوريا، فوقعت بين حلم التقسيم من قبل المستعمر، والواقع السوري الذي إما أن يثبت الحلم أو يقضي عليه. وللقضاء على هذا الحلم، لا بد أن تكون هناك مقومات لدى السلطة السياسية، والزعامات الطائفية في سوريا، وهي مبدأ سوريا الموحدة تحت علم واحد، حاضنة لكل الأقليات والإثنيات المتنوعة فيها، والتي تُقدر بأكثر من 30% من سكان سوريا. فمن خلال هذه الأقليات، يشتغل الإسرائيلي وغيره على تفتيت المجتمع السوري وإيجاد دويلات الطوائف.

من هنا، سنذكر السردية الأولى أو الحلم الذي كان يراود الاستعمار الفرنسي لتقسيم سوريا. ففي عام 1920م، بعد معركة ميسلون الشهيرة التي انتهت باحتلال فرنسا لسوريا، أرادت فرنسا تقسيم سوريا إلى عدة كيانات طائفية بهدف السيطرة عليها ومنع تكوين دولة سورية موحدة وقوية. فكان المشروع يهدف إلى تقسيم سوريا إلى: دولة حلب، دولة دمشق، دولة الدروز، دولة العلويين، على أن يكون أساس هذا التقسيم طائفياً في هذه الدويلات الأربع. فماذا واجه هذا المشروع الاستعماري؟ واجه على الأرض الواقعَ السوري في ذلك الوقت، وهو الرفض. فالتاريخ النضالي السوري يذكر لنا أن مقاومة هذا المشروع بدأت من مناطق الأقليات السورية، وهي المناطق التي من خلالها يدخل المحتل لهدم بنيان الوحدة السورية.

بدأت الثورة السورية الكبرى ضد المستعمر الفرنسي، وعندما يكون هناك مستعمر، تتوحد كل القوى الوطنية في الوطن، وهذا ما حدث في سوريا. بدأت الثورة السورية الكبرى عام 1925، وقادها سلطان باشا الأطرش، وهو درزي من جبل العرب (محافظة السويداء)، وهي من المحافظات التي يحاول الإسرائيلي اليوم استغلالها لتكوين دويلة درزية تحت ذريعة الحماية. فشل الفرنسيون في الماضي في تكوين هذه الدويلة، لأن هناك قيادات وطنية، مثل سلطان باشا الأطرش، حاربت هذا المشروع، فتبعها وطنيون سوريون في دمشق وحماة وحلب واللاذقية، وستبقى أسماؤهم خالدة لأنها أفشلت مشروع التقسيم. ومن أبرزهم: صالح العلي، إبراهيم هنانو، وقبلهم وزير الدفاع السوري وقائد معركة ميسلون يوسف العظمة، وغيرهم من القادة السياسيين والعسكريين الذين أفشلوا المخطط الفرنسي لتقسيم سوريا. وبهذه اللحمة الوطنية، تحقق لسوريا الاستقلال الكامل تحت علم واحد في 17 أبريل 1946، وأصبح هذا اليوم عيداً للسوريين يسمى عيد الجلاء.

ما ذكرته في السردية التاريخية هو ما كان يُراد تحقيقه من قبل المحتل الفرنسي، فكان حلمهم، لكن أفشله الواقع، فالسوريون في ذلك الوقت لم يرضوا بدولة الطوائف. وسوريا اليوم أمام السيناريو نفسه، بل هو أشد وأقسى وأعقد، ويتطلب رجالًا وطنيين من طينة من واجهوا الاستعمار الفرنسي، لأنه في الماضي كانت فرنسا وحدها من تقود هذه الجبهة، أما اليوم فمن يقود هذه الجبهة كُثُر، ليس أولهم ولا آخرهم العدو الصهيوني.

فماذا حصل ويحصل في سوريا اليوم؟ لسرد هذا الأمر لا بد أن نرجع إلى ما قبل عام 2011م، أي قبل الربيع العربي، حيث كانت سوريا تحت قيادة واحدة، وإن كانت سلطوية، ولكن على الأرض، مقارنة بالوضع الحالي، كانت تنعم بدرجة كبيرة من الأمان والاستقرار والوحدة الوطنية، والمواطنون يعيشون حياتهم اليومية بشكل طبيعي من دون خوف من القتل بالهوية كما يحصل اليوم.

قبل 2011م لم تكن هناك جماعات مسلحة تسيطر على أجزاء من البلد، ولم يكن هناك تهجير جماعي أو أزمة لاجئين ومهجرين كما حدث بعد هذا العام، كان الوضع الاقتصادي جيدًا، ولم يكن هناك انهيار للعملة السورية، والأسعار لم تكن تتضاعف بشكل جنوني كل يوم، كل هذا وأكثر لم يكن قبل 2011م، والأهم من ذلك، كان هناك تعايش سلمي بين مختلف الطوائف السورية دون انقسامات عميقة ينتج عنها إهدار الدم ونزاعات طائفية مسلحة كما هو الحال في سوريا الجديدة.

ذكرتُ هذه السردية للواقع السوري قبل الربيع العربي لأصل إلى نتيجة ما بعد ربيع سوريا، إن صح تسميته بذلك، فالجميع يعلم بعشرية النار، وهي الحرب السورية بين الحكومة السورية السابقة والجماعات المسلحة في الجغرافيا السورية بكل صنوفها وأجنداتها السياسية، ومن يقف معها، إلى أن توقفت الاشتباكات بين الجيش السوري السابق وهذه الجماعات، وتكوَّن واقع سياسي وعسكري ظلَّ تقريبًا لسبع سنوات باتفاقات مبرمة وأمر واقع.

فكانت في الجغرافيا السورية ثلاثة أعلام تقف وراءها دول تساند هذه الأعلام، وقد ذكرتها سابقًا في مقال مفصل بعنوان ثلاثة أعلام في دولة: دولة المسلحين أو حكومة إدلب، وهم تحت المضلة التركية، وسميتها دولة المسلحين ليس عبثًا، ولكن بسبب الاتفاقيات مع الحكومة السورية السابقة، التي بموجبها تم إرسال هؤلاء المسلحين إلى محافظة إدلب السورية، ولها علمها الخاص. أكراد سوريا، الذين هم تحت المضلة الأمريكية في شمال شرق سوريا، ولهم علمهم الخاص. النظام السوري السابق، الذي كان يستحوذ على ما يقارب 70% أو أكثر من الجغرافيا السورية، وكان حلفاؤه هم الروس والإيرانيون.

ظلَّ هذا الوضع ما يقارب سبع سنوات في ظل مساكنة عسكرية بين الدويلات الثلاث -إن صح التعبير-مع وجود الموارد الطبيعية السورية تحت سيطرة دويلة الأكراد مع الحليف الأمريكي، وهذا بدوره خلق أزمة اقتصادية للحكومة السورية السابقة مع قانون قيصر الأمريكي.

جاء يوم التغيير الكبير قبل ثلاثة أشهر أو أكثر بقليل، وفي غضون عشرة أيام، ورثت حكومة إدلب بقيادة هيئة تحرير الشام حكومة دمشق، وعندما أقول ورثت أقصد أن الموضوع صار بأمر سياسي، وانتهى حكم بشار الأسد دون مواجهة عسكرية حقيقية. أسرار سقوط الحكومة السورية السابقة ربما ستكشف يومًا ما، فالأيام دول.

يهمنا هنا أن هيئة تحرير الشام بدَّلت علم الدولة الرسمي الممثل في المحافل الدولية بعلمها الخاص، وتغير كل شيء؛ فهيئة تحرير الشامسيطرت على ما كانت تسيطر عليه حكومة بشار الأسد السابقة، ما عدا ما تسيطر عليه قسد وحكومتها في شمال شرق الفرات. هذه السيطرة الدراماتيكية لمسلحي إدلب، بتنوعاتهم الأصولية المختلفة، لم يستوعبها حتى الذين سيطروا على ما كانت تسيطر عليه حكومة بشار الأسد السابقة بهذه السرعة.

ومن جانب آخر، الشعب السوري تعب من القتال، ومنهك من الحصار الاقتصادي، وأراد من هذا التغيير أن يُفك الحصار الاقتصادي على سوريا بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد، لأن الغرب وأمريكا كانوا يحاصرون حكومة بشار الأسد بسبب البعد الإيراني والروسي. ولكن بعد سقوط الأسد بثلاثة أشهر، ما زال الحصار الاقتصادي قائمًا، لأن أمريكا تريد تنازلات أكثر من الحكومة الحالية، وعلى رأسها التنازل رسميًا عن الجولان.

من هنا، سندخل في مسألة الأقليات في سوريا، والتي هي بوابة التقسيم المفضلة لدى القوى الاستعمارية في المنطقة ولدى إسرائيل. فحكومة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة ببشار الأسد، تقع تحت سيادتها مناطق الأقليات المذهبية والطائفية في سوريا، ما عدا الأكراد في شمال شرق الفرات، وأقصد الدروز في محافظة السويداء، والعلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وبعض مناطق تواجد العلويين في سوريا، بالإضافة إلى الطائفة الشيعية.

قبل سقوط النظام السوري السابق، كان هناك تعايش سلمي بين هذه المكونات والحكومة، وبما أن رأس الحكومة السورية السابقة كان من هذه الأقليات، فقد كانت الحكومة السابقة متشكلة تقريبًا من جميع ألوان الطيف السوري، وتحكمها المظلة الوطنية، كما أن قوات الجيش والأمن كانت من هذا النسيج المتنوع في سوريا.

مشكلة حكام سوريا الجدد أنهم من لون واحد، راديكالي التوجه، حتى مع إخوتهم السنة في دمشق وحلب وغيرها. كما أنهم يحملون عداءً دموياً تجاه الأقليات الإثنية والمذهبية في سوريا، وهذا كان واضحًا أبان المعارك مع الحكومة السورية السابقة خلال عشرية النار السورية. وعند استلامهم الحكم في سوريا، بدأ الصدام مع الدروز في السويداء، ورُفِعت رايات الجهاد التي تعودنا سماعها ضد إخوة الوطن من قبل هذه الجماعات المسلحة، بينما تُرك جهاد المحتل الإسرائيلي، الذي يحتل أجزاءً من ثلاث محافظات جنوبية في سوريا.

مشروع التقسيم القديم بقيادة فرنسا ظهر اليوم لدروز السويداءمن البوابة الإسرائيلية، وأصبح التهديد بالتدخل لحماية الدروز معلنًا من قبل الإسرائيليين. ولكن وطنية رجال سلطان باشا الأطرش تُجهض كل مساعي الكيان الصهيوني لضم محافظة السويداء أو جعلها دويلة مستقلة تحت حمايته.

الأحداث الأخيرة الدامية في اللاذقية وطرطوس، وهي مناطق الأقلية العلوية في سوريا، تعيد مشهد الحرب الطائفية في هذا البلد، والحكومة السورية الجديدة، ومسلحوها الذين أصبحوا من رجال الأمن والجيش السوري الرسمي، للأسف، يرفعون ذات الشعارات الطائفية، لأنمكون هذا الجيش مبني على هذه الأيديولوجية المذهبية المقيتة.

ولا عجب في ذلك، لأن هذا المكون ليس سوريًا خالصًا، ففي بنيةالجيش والأمن للحكومة السورية الجديدة يوجد الشيشاني، والتركماني، والقوقازي، وحتى العربي، ومقاطع الفيديو منتشرة لجرائمهم ضد المدنيين وموثقة حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. ومن المفارقات أن ذات المرصد كان نفسه يوثق تجاوزات الحكومة السورية السابقة.

حلم تقسيم سوريا من قبل الفرنسيين في بداية القرن الماضي، كان حجر عثرة أمام الوحدة الوطنية السورية، فتمت محاربة فرنسا بهذه الوحدة من قبل جميع السوريين، بكافة طوائفهم المختلفة، فكان حلمًا استعماريًا بدده الواقع السوري في ذلك الوقت.

اليوم، حلم التقسيم يدخل سوريا من بوابات مختلفة: أمريكية، تركية، إسرائيلية، والوضع أخطر بكثير من السابق. ولكن يوجد بصيص من الأمل باتخاذ عدو مشترك، وهو الإسرائيلي، وانطلاق الوحدة الوطنية من هذه البوابة. والحكومة السورية الجديدة، إذا أرادت البقاء، فلا بد أن تغير من عقيدتها القتالية ونظرتها الراديكالية الأصولية تجاه المكون المختلف عنها، وتجعل الجامع هو الوطن والمواطنة.

ويجب أن تكون هناك مشاركة واسعة وحقيقية في الحكومة والجيش والقوى الأمنية لكل مكونات الشعب السوري دون إقصاء أو تهميش، لكي تقضي على كل دعوات التقسيم، خاصة تلك التي تصدر عن الكيان الصهيوني. إن وحدة سوريا ليست مجرد شعار، بل هي الضمان الحقيقي لاستقلالها وسيادتها، وهي السد المنيع أمام مشاريع التفتيت التي فشلت سابقًا وستفشل اليوم إذا وعى السوريون خطورة المرحلة.فلا يمكن بناء مستقبل آمن ومستقر إلا بتجاوز رواسب الحرب، والانطلاق نحو مصالحة وطنية شاملة تضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات أخرى. فالتاريخ يكتب اليوم، والخيار للسوريين: إما دولة تنهض من تحت الركام، أو دويلات متناحرة تبتلعها مشاريع الهيمنة الخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى