المقالات

السابع من أكتوبر إجهاض مشروع الشرق الأوسط الجديدة رقم (2)

بقلم:جمال بن ماجد الكندي

التاريخ العربي الحديث يحتوي على أحداث تُسمى “العلامات الفارقة”، وهي تعني أنها تؤسس لما بعدها وتنهي حقبة كانت قبلها. ومنذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي قبل أكثر من 75 سنة، ظهرت علامات فارقة مهمة في هذا الصراع، بدأت بحرب 1948 التي أسست لوجود الكيان الصهيوني في خاصرة الأمة العربية بعد هزيمة العرب في هذه المعركة، وما زال الصراع مستمرًا مع هذا العدو الصهيوني المحتل من أجل تحرير الأرض حتى يومنا هذا.
بعد عام 1948، كانت هناك معارك وحروب مهمة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وأهم هذه الحروب هي حرب السابع من أكتوبر عام 1973، حيث تعرض فيها المحتل الإسرائيلي لأول هزيمة استراتيجية منذ تأسيس هذا الكيان الغاصب. ما ذكرناه هو على مستوى الجيوش العربية التي خاضت حروبًا حقيقية مع الكيان الصهيوني المحتل، ولكن بعد اتفاقيات السلام، التي أضعها بين قوسين غليظين، تغير الحال وأصبحت الحركات التحررية والجهادية في فلسطين ولبنان هي التي تخوض الصراع المسلح مع العدو الصهيوني.

السابع من أكتوبر 2023 هو تاريخ آخر من تواريخ العزة والكرامة في سجل الصراع العربي الإسرائيلي، لأنه أجهض مشروع “الشرق الأوسط الجديد” أو “الكبير” رقم (2). وقبل أن نتحدث عن هذا المشروع، سنذكر ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، معركة “طوفان الأقصى” في غزة.
ماذا حدث في السابع من أكتوبر؟
السابع من أكتوبر هو علامة فارقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وما بعده سيغير واقع ما قبله. سميت معركته “طوفان الأقصى”، فكان طوفانًا هز أركان الاحتلال الصهيوني وأعوانه، وأجهض مشروع توسيع التطبيع العربي مع إسرائيل واختزال القضية الفلسطينية في سلطة في رام الله تُقاد حسب أهواء المحتل الإسرائيلي. كانت معركة “طوفان الأقصى” ردًا للكرامة الفلسطينية ومطلباً لتحرير الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
في هذا اليوم، أطلقت حركة حماس عملية عسكرية كبيرة سمتها “معركة طوفان الأقصى”. بدأت العملية بهجوم مفاجئ على إسرائيل في مستعمرات غلاف غزة، فاخترقت الحدود البرية والبحرية، وبدأ الهجوم بقصف صاروخي مكثف تجاه القواعد العسكرية في غلاف غزة، وهي:
• قاعدة زيكيم: قاعدة عسكرية بحرية تقع على الساحل الإسرائيلي بالقرب من قطاع غزة، وكانت هدفًا رئيسيًا في الهجوم، حيث حاولت حماس التسلل إلى القاعدة عبر البحر.
• قاعدة رعيم: وهي مقر قيادة القيادة الجنوبية للجيش الإسرائيلي، وتُعتبر من أهم المراكز التي تم استهدافها خلال الهجوم المفاجئ.
• قواعد بالقرب من كيبوتسات ومستعمرات غلاف غزة: استهدفت حماس أيضًا مواقع عسكرية صغيرة ونقاط حراسة حول المستوطنات الإسرائيلية القريبة من حدود غزة، مثل كفار عزة وناحال عوز والعين الثالثة.
معركة “طوفان الأقصى” تسببت في وقوع خسائر كبيرة في الجانب الإسرائيلي، فالهجوم كان غير متوقع، ونجحت حماس في خداع العدو الإسرائيلي بإيهامه بعدم قدرتها في خوض معركة كبيرة من هذا النوع، وإنها مستعدة ومتهيئة لإبرام هدنة طويلة مع إسرائيل بعيدًا عن الفصائل الفلسطينية الأخرى في غزة.
نأتي الآن إلى مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي أجهضت حماس نسخته الثانية. فأين كانت نسخته الأولى؟ نسخته الأولى كانت في لبنان في معركة 2006 بين المقاومة اللبنانية والكيان الصهيوني، ومهندسة هذا المشروع وأكبر منظريه هي وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق “كوندوليزا رايس”. جاء إعلانها لهذا المشروع خلال الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وحزب الله في ذلك العام، ووصفت الصراع الدائر بينهما بأنه “آلام مخاض” ولادة مشروع الشرق الأوسط الجديد.
أهم ملامح هذا المشروع المشروع كانت:
1. إعادة رسم الحدود السياسية: كان المشروع يهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة لتكون أكثر توافقًا مع المصالح الغربية، خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل. شملت الخطة فكرة تقسيم بعض الدول إلى كيانات أصغر قائمة على أسس عرقية أو طائفية، لضمان تفتيت القوى الكبرى التي قد تعارض المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
2. تحقيق استقرار دائم لصالح إسرائيل: إحدى أبرز أهداف المشروع كانت إنشاء شرق أوسط يعترف بإسرائيل ويضمن أمنها على المدى البعيد، عن طريق تحجيم قدرات الحركات المقاومة مثل حزب الله وحماس، وتعزيز الأنظمة السياسية الحليفة للغرب.
3. تشجيع الديمقراطية: كان المشروع يعتمد على نشر “الديمقراطية” في المنطقة، ولكن ضمن نموذج يحقق مصالح واشنطن وحلفائها.
4. إعادة تشكيل الاقتصاديات: كان الهدف تحسين اقتصاديات دول المنطقة بما يتناسب مع العولمة وفتح الأسواق أمام الشركات متعددة الجنسيات.
5. إضعاف القوى الإقليمية المستقلة: كان المشروع يهدف إلى إضعاف القوى الإقليمية مثل إيران وسوريا وحركات المقاومة.
فشل هذا المشروع فشلاً ذريعًا بهزيمة إسرائيل في حرب 2006 أمام المقاومة اللبنانية “حزب الله”.
المشروع الثاني هو ذاته المشروع الأول، وبدأت معالمه الأولى في عملية التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، الذي بدأ مع ثلاث دول عربية. وكانت الجائزة الكبرى المنتظرة هي الحصول على تطبيع أكبر دولة خليجية، وبعد ذلك، يُطبق مشروع “كوندوليزا رايس” بنسخته الجديدة، أي “التطبيع العربي الإسرائيلي”، وبعدها يتم عزل أي مقاومة مسلحة ضد الكيان الصهيوني واعتبارها تغرد خارج سرب السلام العالمي مع إسرائيل.
جاءت معركة “طوفان الأقصى” لتقلب كل الأوراق الصهيونية، وأعادت الصراع إلى المربع الأول. وما زال الصراع قائمًا مع هذا العدو الصهيوني. معركة “طوفان الأقصى” حققت مبدأ ونظرية “وحدة الساحات”، التي يتحدث عنها منظرو تيار المقاومة والممانعة في المنطقة. هذه المعركة جسدت هذه النظرية وجعلتها واقعًا ملموسًا على الأرض عبر جبهات المساندة اللبنانية والعراقية واليمنية. هذه الجبهات أثبتت فعاليتها ودعمها للمجاهدين في غزة، وأصبحت رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه، ولا تقبل التوقف إلا عندما تأتي الإشارة من غزة مهما كلف ذلك من دماء ودمار.
هذا الأمر أربك التحالف الصهيوني في المنطقة، فهو أسس لثوابت جديدة في المنطقة تعيق تحقيق مشروع “الشرق الأوسط الجديد”. معركة “طوفان الأقصى” مستمرة، وجبهات المساندة في لبنان والعراق واليمن تقدم الدعم الحربي. فالثمن الذي يُدفع في إجهاض مشروع هيمنة إسرائيل في المنطقة غالٍ، ولكنه ليس أغلى من التحرر الوطني ودحر المحتل الصهيوني، والدماء التي تسيل في سبيل هذا المشروع هي دماء شريفة تستشهد من أجل قضية وطنية، يريد الغرب وأمريكا أن ننساها، ونرضى بواقع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان.
ما يميز معركة “طوفان الأقصى” عن حرب 2006 هو وحدة الجبهات والساحات، وهذا ما يقلق إسرائيل وحلفاءها، فهم يسعون جاهدين لفصل هذه الجبهات عن جبهة غزة، وما معركة لبنان وتوسعها الكبير باغتيال القادة وقصف الضاحية الجنوبية يوميًا ومحاولة التوغل البري إلا دليل على ذلك، وسيكون الفشل عنوانهم الكبير كما كان العنوان البارز في حرب 2006.
التوحش الإسرائيلي في القتل في غزة ولبنان هو دليل فشله في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها عند بدء معركته في غزة، فبعد مرور عام على المعركة لم يحقق العدو الإسرائيلي أهدافه السياسية والعسكرية المعلنة، ومن أهمها تحرير الأسرى. وبعد عام من القتل والتدمير الممنهج في غزة، ما زال الأسرى في قبضة رجال المقاومة الفلسطينية.
المعركة مستمرة في غزة ولبنان، وجبهات المساندة العراقية واليمنية تثبت يومًا بعد يوم فعاليتها في الإسناد الحربي، هذه الجبهات تمثل أدوات ضغط كبيرة تُمارس ضد العدو الصهيوني، وتزيد من وتيرة تهجير مستوطني الشمال الفلسطيني المحتل. وبطبيعة الحال، الجبهة الأقوى هي الجبهة اللبنانية. فهل ستجبر هذه الجبهات العدو الصهيوني على التفاوض؟

سؤال كبير وإجابته ستكون في الميدان، وكما طلبت إسرائيل وقف إطلاق النار بغطاء أممي في حرب 2006، سيتكرر السيناريو ذاته مع لبنان، خاصة بعد توسع الصراع وتلقي العدو الصهيوني ضربات قاسية خلال الأيام الماضية في الجنوب اللبناني، وستكون لبنان مرة أخرى البوابة لوقف العدوان الصهيوني على غزة ولبنان، وإفشال مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.
في الختام، يمكن القول إن معركة “طوفان الأقصى” غيرت معادلات الصراع العربي الإسرائيلي وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي. هذه المعركة أثبتت أن المقاومة المسلحة ما زالت قادرة على تغيير الواقع وإرباك حسابات العدو الصهيوني وحلفائه. وإن استمرارية جبهات المساندة في لبنان والعراق واليمن تزيد من فرص تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية لصالح المقاومة في المنطقة، وتؤكد أن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” لن يمر طالما بقيت هذه الجبهات متحدة ومتماسكة في وجه الاحتلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى