حادثة الوادي الكبير في ميزان التسامح والاعتدال العماني
بقلم: جمال بن ماجد الكندي
ما حصل قبل عدة أيام في سلطنة عمان، بما أصطلح بتسميته (حادثة الوادي الكبير)، وهو إطلاق النار على مسجد لإخواننا من المذهب الشيعي، وهم في أغلبيتهم من الجالية الآسيوية المتمذهبين بهذا المذهب الكريم، الذي هو جزء من المذاهب الإسلامية الثلاثة المتعايشة بسلام في سلطنة عمان
.هذه الحادثة كان التعاطي معها سيكون مختلفاً لو بقيت المعلومات نفسها التي وردت وتسربت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي أن الجناة من نفس الجنسية الآسيوية التي في المسجد. ولكن عندما أكدت الجهات الأمنية في سلطنة عمان بأن الجناة هم عمانيون، تغير الموقف وظهرت تساؤلات كثيرة في الشارع العماني حول الأسباب والمسببات التي أدت لهذا الحادث. هذه التساؤلات نابعة من أن المجتمع العماني مجتمع مسالم ومتسامح وهذا الأمر غريب عليه، وهو كذلك بشهادة من عاشر هذا المجتمع سواءً العربي المسلم أو غيره من الجاليات الأجنبية. ويكفينا قول رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في أهل عمان (لو أتيت أهل عمان ما ضربوك ولا سبوك). ونقول هذه هي القاعدة الأساسية في المجتمع العماني، ولكن لكل قاعدة شواذ، ولابد لنا أن نحلل ونعالج هذا الخط الشاذ، الذي فارق الجماعة المعتدلة المتسامحة.
من هنا سيكون مقالي له بعدان: البعد الأول هو التاريخي وإسقاطه في الواقع الحالي، وهي زاوية معينة لهذا الحدث، ويلتصق بها غايات تستغلها قوى تريد أن تقول كلمتها، كما قالتها في ساحات الصراع السياسي والعسكري في العراق وسوريا وأفغانستان. والبعد الثاني هو البعد الوطني في المراجعة والحيلولة لعدم تكرار مثل هذا الحدث الكبير الذي لن يغير الاعتقاد الراسخ في أهل عمان وأخلاقهم وتسامحهم، وبأن هذا الفكر التكفيري نبتة خبيثة لا مكان لها في تربة عمان الطيبة.
البعد الأول: هو الجانب التاريخي لهذه الفكرة، فهي كانت في بداية التاريخ الإسلامي في القرن الأول الهجري وعرف أصحابها (بالخوارج)، وعقيدة هذه الفئة أن من خالفهم في الفكر والمعتقد، يحل دمه وماله وتسبى ذريته. وطبعاً كانت هذه الفئة تعتبر خطراً كبيراً على الدولة الإسلامية في الخلافة الأموية والعباسية، لذلك فقد اتفق العلماء في تلك الفترة على محاربتها، لأنها تخالف مخالفة صريحة لجوهر الإسلام في التسامح والتعايش السلمي بين طوائفه التي تجمعها المبادئ الإسلامية الأساسية المعروفة في الإسلام. لذا فقد حاربتها الدولة الأموية بقيادة القائد الأزدي العماني “المهلب بن أبي صفرة” قتالاً لا هوادة فيه. ولا يفوتنا أن نذكر أن الدولة العمانية بقيادة الإمام “الجلندى بن مسعود” وهو مؤسس الإمامة الأولى في عمان حاربت الخوارج كذلك، مع الدولة العباسية، علماً بأن الإمام كان على خلاف مع الدولة العباسية، ولكن هذا الخلاف لم يمنع الاتفاق فيما بينهما بأن هذه الفرقة مارقة عن الدين. فكانت واقعة “جلفار” الشهيرة بين جيش الإمام وجيش “شيبان ” قائد فرقة الخوارج الصفرية، والنصر كان لجيش الإمام في هذه الواقعة. من البعد التاريخي سندخل إلى الزاوية الثانية لهذا الفكر بكل الأسماء المختلفة التي نسمعها عنه، والتي اختار منفذو حادثة “الوادي الكبير” أحد أشهر هذه الأسماء وهي (داعش). فهذه الفكرة موجودة في التاريخ الإسلامي ويتم تقويتها وإضعافها لأغراض سياسية وعسكرية. من هنا سنسقط هذا الفكر الطائفي الدموي بالواقع السياسي الحاكم في العالم، من قبل دولة كبيرة لها مصالح تريد الحصول عليها، ولو كان ذلك بأيدي غيرها، نظرية (النوم مع الشيطان) التي قال بها المفكر الأمريكي “بريجنسكي” مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق “جيمي كارتر”. وقبل أن نسوق الأحداث، نذكر كلام الرئيس السابق للولايات المتحدة “ترامب” في اتهامه أوباما وهيلاري كلينتون بتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واعتراف كلينتون بأن الإدارة الأمريكية هي من أوجدت “داعش”. هذا الأمر تم نفيه من قبل الإدارة الأمريكية، ولكن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك. فهذه الفئة كانت تتحرك في سوريا والعراق تحت الأهداف المرسومة من قبل الإدارة الأمريكية في تدمير هذه الدول لإيجاد المسوغ والمبرر للتدخل العسكري، وهذا ما تم تحت غطاء القضاء على “داعش”. ففي العراق عندما ظهر “داعش”، قالت الإدارة الأمريكية بأن القضاء عليه يتطلب عقوداً من الزمن لتبرر وجودها في العراق لأطول مدة ممكنة، ولكن تم القضاء على “داعش” في العراق في مدة لا تتجاوز 3 سنوات بأيدي الجيش العراقي والقوات المساندة له من جميع الطوائف. والحال كذلك في سوريا وفي أفغانستان، فبعد الخروج المذل للجيش الأمريكي من أفغانستان ظهرت “داعش” بتفجيرات في كابل العاصمة وغيرها بتوقيعها. وهذا بدوره يجعلنا نحلل هنا بأن هذه الفكرة تُستغل أمريكياً وصهيونياً وفق قاعدة “فرق تسد” إلى أن يتغير الحال مثل ما حصل في سوريا والعراق.
المراد من ذكر هذا الجانب التاريخي لهذه الفئة وربطها بالواقع السياسي المعاصر هو بيان معلومة معينة قد أصيب فيها أو أخطأ، أنها أداة تستخدم من قبل قوى أخرى لا تستطيع تغيير واقع معين لا يعجبها فتغيره بأيدي غيرها مستغلة الفكرة التاريخية للخوارج، فتغذي وتساعد من يتبنون هذا الفكر. وهنا تتحقق مصلحتان: الأولى في تحقيق أصحاب هذا الفكر ما يعتقدون بأنه الصواب وسيكون جسراً سريعاً إلى الجنة والعشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما يزعمون. الثانية تحصل عليها من تدعم وترعى هذه الفئة استخبارياً بإرسال رسائل معينة لمن يخالفها في التوجه العام، وفي عدم تبني سياستها في المنطقة فتكون رسالة تنبيه لها، أو بدعم كامل مثل ما حصل في العراق وسوريا، والنتيجة وجود قوات أجنبية في هذين البلدين يشكلان احتلالاً غير مباشر وفي بعض الأحيان هو احتلال مباشر ينهب الثروات مثل ما يحصل في شمال سوريا.
طبعاً البعض يخالف هذا الرأي ويسميه “عقدة نظرية المؤامرة” ولكنه يبقى احتمالاً وارداً يستحق التحليل والنظر.
البعد الوطني: وهذا البعد مهم جداً وهو في صلب عنوان المقال ” حادثة الوادي الكبير في ميزان التسامح والاعتدال العماني، وعندما ننظر لهذا البعد ندرك بأنه وطني ، وأعني بذلك أن مفاتيح الدخول إليه ومعالجته هو شأن كل دولة يظهر فيها هذا الفكر، وتريد ترجيح كفة الاعتدال والتسامح على أي كفة أخرى ، وفي عمان هذه الكفة هي الراجحة بامتياز ولن يعكر صفوها هذه الحادثة، وكان الاستغراب في الشارع العربي والإسلامي من وقوع هذه الحادثة في سلطنة عمان نابع من معرفتهم بواقع التعايش السلمي العماني، بين أبنائها وكافة الجنسيات التي تسكنها، لذا كان لابد من بيان أن “لكل قاعدة شواذ”. كما قلنا في بداية المقال.
من هنا لابد أن نعالج هذا الشاذ، لكيلا يؤثر على القاعدة العامة التي تميزت بها عماننا الحبيبة بين دول العالم في التسامح والاعتدال، وهنا يأتي الدور الوطني في عدم السماح بتبني أفكار ضالة هدمة تكفيرية في عمان، لأن تبنيها بسهل توظيف أصحابها في أغراض سياسية وعسكرية تضر البلد وتهدم نسيجه المترابط كما قلنا في البعد الأول. ولا أقصد الدور الوطني الحكومي فقط، ولكن دور كل شخص في هذا البلد الكريم، فالحكومة لها دور في التوعية التربوية والإعلامية، والفرد له دور المراقبة في أهل بيته وتربيتهم على مبادئ الإسلام السمحة التي قام عليها ديننا الحنيف.
ختاماً: حادثة الوادي الكبير هي حادثة غريبة على المجتمع العماني، ولن تؤثر على القاعدة العامة في عمان في أنها بلد التسامح والأخوة والمحبة بين جميع مكوناته العمانيين والوافدين، هي حادثة فردية تأثر من قام بها بفكر ظلامي عانت منه دول عربية وإسلامية وما زالت، وستبقى ذكرى لن تؤثر على النسيج العماني المترابط وعلى السلم الأهلي العماني الذي بناه قائد نهضة عمان الحديثة السلطان “قابوس” طيب الله ثراه وخلفه السلطان “هيثم” مجدد نهضتها فلن يضيع هذا الصرح الكبير بسبب حادثة عرضية. فالتاريخ العماني الحديث صفحة بيضاء وأي نقطة سوداء صغيرة لن تعكر صفو هذه الصفحة، لأننا سنتجاوزها ونمسحها ولن نجعلها تكبر وتعكر النقاء العماني، وسيظل الميزان الراجح في عمان هو ميزان الاعتدال والتسامح والعيش السلمي بين جميع مكونات البلد.