قراءة أكاديمية لاستقالة “كلودين غاي” من رئاسة جامعة هارفارد
بقلم:الدكتور بدر المسكري
أكاديمي بجامعة السلطان قابوس
لا يختلف اثنان على أن مجرد العمل في جامعة عريقة كجامعة هارفارد والإنتساب إليها مدعاة للشعور بالفخر والاعتزاز لكل أكاديمي لما تتمتع به الجامعة من سمعة أكاديمية عالية تدريسياً وبحثياً، ولما يتمتع به خريجو هذه الجامعة من كفاءة جعلت الكثير منهم يحصل على أرقى الوظائف وأبرزها في شتى أنحاء العالم، ومن المؤكد أن هذا الشعور سيتضاعف كثيرا لمن يتولى رئاسة هذا الصرح العلمي العريق، إذ أنه يشغل قمة هرم المؤسسات الأكاديمية على مستوى العالم أجمع.
وقد تولت الأكاديمية المتميزة (كلودين غاي) والمتخصصة في السلوك السياسي الأمريكي سدة رئاسة جامعة هارفارد في يونيو 2023، ولم تستمر رئاستها تلك طويلا إذ تقدمت باستقالتها في يناير 2024.
ولعل في رحلة كلودين غاي القصيرة في رئاسة هارفارد عظيم الدروس التي يجب أن يلتفت إليها صناع القرار الأكاديمي:
– الدرس الأول: الكفاءة هي المعيار الأول في تولي المناصب القيادية، ويجب أن يكون الوحيد:
تنحدر كلودين غاي من أسرة مهاجرة من هاييتي، وقد ولدت في ولاية نيويورك، وكانت والدتها تعمل ممرضة في حين كان والدها يعمل مهندسًا في فيلق المهندسين بالجيش الأمريكي، ولم يكن أصل كلودين غاي ولا عرقها مانعاً من تميزها الأكاديمي الألمعي، ولا من خوضها غمار المنافسة الشرسة على تولي رئاسة جامعة هارفارد، إذ تم اختيارها لهذا المنصب وخلافة سلفها فيه من بين 600 أكاديمي مميز مرشح له، ولعل ذلك يشير بوضوح على أن الكفاءة الأكاديمية والإدارية كانت وحدها معيار إشغال هذا المنصب الأكاديمي، ولم يلتفت فيه أصحاب القرار إلى غيره من المعايير الأخرى البعيدة عن غايات الجامعة ومرام تطورها الحقيقي.
– الدرس الثاني: لكل موقف مبدئي ثمنٌ يماثله في القيمة، ولا يعترف بمنطق الربح والخسارة:
من الدروس التي يمكن استخلاصها من استقالة رئيسة جامعة هارفارد أن ثمن الدفاع عن استقلال الجامعة والحفاظ على قيمها مثل الحرية الأكاديمية وحرية التعبير سيكون باهظاً وقد يصل إلى حد تشويه السمعة الاكاديمية، فقد اتهمت “كلودين غاي” بالسرقة الأدبية، وهو ما أضطر الجامعة لعرض ملفها الأكاديمي على لجنة المراجعة والتي أكدت أن “كلودين غاي” بريئة من هذه التهمة، وأن سلوكها البحثي لا يتعارض مع معايير الجامعة في البحث العلمي ولا ينتهك أياً منها، ويأتي هذا الاتهام في سياق من الضغوطات التي تعرضت لها “كلودين غاي” والتي قادتها اللوبيات الداعمة لإسرائيل، وتم استجوابها إثر ذلك من قبل النائبة الجمهورية “إليز ستيفانيك” في جلسة استماع ردت فيها “كلودين” متمسكة بموقفها :(نحن نؤيد حرية التعبير حتى لو كان ذلك يتعلق بآراء مرفوضة ومهينة وبغيضة، عندما يتحول الخطاب إلى سلوك ينتهك سياستنا – بما في ذلك السياسيات المرتبطة بالتحرش أو التنمر –نتخذ تدابير).
– الدرس الثالث: أن القيمة الفضلى ستجد من يدافع عن حاملها، ليس لشخصه، بل حفاظاً عليها من الزوال:
بعد أن أعلنت “كلودين غاي” استقالتها من منصبها قام 700 من أعضاء هيئة التدريس بجامعة هارفارد بالتوقيع على خطاب يعارض إقالة كلودين غاي من منصب رئيسة الجامعة، بل إن رابطة خريجي جامعة هارفارد قد أكدت على أنها (بالإجماع وبشكل لا لبس فيه تدعم قيادة غاي، وتشيد بها ” لحماية الأكاديمية، والحرية وحق جميع الطلاب في التعبير عن آرائهم)، كما أيد مجلس إدارة مؤسسة هارفارد بالإجماع قيادة غاي.
وهنا يتضح لنا حرص منتسبي هذه الجامعة للدفاع عن رئيسة الجامعة ليس لشخصها وإنما للدفاع عن القيم التي كانت غاي تدافع عنها وحفاظًا على استقلال الجامعات، وهذا بلا شك يعزز قوة غاي في البقاء في المنصب، ويعزز مكانتها ويقوي منها في الدفاع عن مبادئ وقيم الجامعة.
– الدرس الرابع: المؤسسة يجب أن تبقى بذات صورتها المتميزة، حتى لو تغير الأشخاص:
تذكر “كلودين غاي” في متن استقالتها، وتسبيباً لها أن استقالتها جاءت ” حتى لا يتسبب الجدل بشأن شخصها في إلحاق ضرر بالجامعة “، وتضيف: ” أصبح من الواضح أنه من مصلحة جامعة هارفارد أن أستقيل حتى تتمكن من تجاوز هذه المرحلة الصعبة للغاية عبر التركيز على المؤسسة بدلا من الفرد”،
وهنا درس رائع جدًا من شخص يملك مقومات القيادة ويتجاوز مصالحه الشخصية الضيقة وهي أن المحافظة على المؤسسة يظل أهم من بقاء الفرد، وأن بقاء سمعة جامعة هارفارد لتحقيق أهدافها أكثر أهمية من بقاء الفرد.
– ختاماً، فإن الدروس المستقاة من رحلة ” كلودين غاي” الأكاديمية ووصولها إلى رئاسة أعرق جامعة عالمية، وتنازلها الإرادي عن منصبها ودفاعها ورفاقها عن مبدأها السامي وكل ما رافق كل ذلك من تداعيات وظروف تدل بشكل واضح على رصانة البيئة الأكاديمية في المجتمع الأمريكي – على الأقل في جامعة هارفارد – واحترامه للمبادئ التي تقوم عليها سلامة العمل الأكاديمي وحريته، فضلاً عن أنها إضاءات يفخر بها كل منتسب للبيئة الأكاديمية ويتمسك بها، ويأمل أن تصيبه عدواها.
المراجع
كلودين غاي أميركية سوداء أطاح بها لوبي إسرائيل من رئاسة جامعة هارفارد، منشور في موقع الجزيرة بتاريخ6/ يناير/2024.