ماذا تكشف قمة “بريكس” عن ملامح عهد جديد للجغرافيا السياسية الجديدة؟
وهج الخليج – وكالات
أظهرت قمة تجمع “بريكس” التي عقدت الأسبوع الماضي في جنوب أفريقيا، قبل أسابيع قليلة من الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، بزوغ كتل جيوسياسية جديدة. ويطرح ذلك هذا السؤال المهم : ما هو الدور الذي يلعبه الجنوب العالمي، وما هي العوامل
المحركة الرئيسية لسياسات المستقبل؟
وتحدى الرئيسان الصيني شي جين بينج، والروسي فلاديمير بوتين الغرب في قمة بريكس للاقتصادات الناشئة بمدينة جوهانسبرج. ويضم التجمع حاليا البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وصنف البعض قمة جوهانسبرج على أنها “قمة النصف الجنوبي للكرة الأرضية”. ولم يشارك بوتين في القمة بالحضور الشخصي، خشية أن يتم توقيفه استنادا لمذكرة من المحكمة الجنائية الدولية على خلفية ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
وما من شك في أن قمة بريكس (22 ـ 24 أغسطس) كانت التجمع الأكثر أهمية لروسيا والجنوب العالمي منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا قبل 18 شهرا. وقدمت القمة منصة للقاء بين روسيا وأربعة دول لا ترفض فحسب أن تأخذ جانب الغرب ضد موسكو، ولكنها تهدف أيضا إلى إقامة “تعددية شاملة”، بحسب شعار القمة. وأعلن بريكس عن توسيع التجمع خلال عام 2024، ليشمل ستة أعضاء جدد “الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والسعودية والإمارات”. ويشكل ذلك، باختصار، تحديا لهيمنة الغرب، حتى لو لم يكن الانفصال بشكل حقيقي ممكنا، في عالم تترابط فيه المصالح.
وبالتأكيد، انصب قدر واسع من الاهتمام على الرئيس الروسي، الذي أصدر أمره بشن واحدة من أكبر الحروب في أوروبا منذ عام 1945، ألا وهي حرب أوكرانيا، قبل 18 شهراً تقريبا. وتحدث بوتين أمام القمة من خلال رابط فيديو، وأدان الدول الغربية بسبب ما وصفه بأنها “عقوبات غير مشروعة تسحق جميع قواعد التجارة الدولية”، وبسبب سياساتها التي رأي أنها تؤجج التضخم. وبحسب الرئيس الروسي، فإن الخطوة الحاسمة صوب تحقيق عالم التعددية هي التخلص من الدولار، وهي عملية يراها “تترسخ بالفعل، وبشكل لا رجعة فيه”. وشدد بوتين على أن التعامل بالعملة الأمريكية شكل فقط 7ر28% من إجمالي حجم التجارة بين دول بريكس الخمس في 2022.
ـ روسيا تتأرجح مرارا غربا بحثا عن أصدقاء
وتعتزم روسيا مواصلة نهج تقديم نفسها كبديل للدول الغربية، وتندد بما تصفه بالسياسة الاستعمارية الجديدة لهذه الدول تجاه بقية العالم. وأصر الرئيس بوتين في كلمته للقمة على أن بلاده ليست مسؤولة عن أزمات الغذاء في العالم. وفي لفتة حسن النية، وإشارة للنصف الجنوبي من الكرة الأرضية، أعلن بوتين أن موسكو سوف توفر آلاف الأطنان من الحبوب لست دول أفريقية، مجانا. وكانت روسيا أنهت الشهر الماضي اتفاقا كان تم التوصل إليه بوساطة من الأمم المتحدة وتركيا، لتصديرالحبوب الحيوية عبر الموانئ الأوكرانية المحاصرة على البحر الأسود. وترى تركيا نفسها أيضا وسيطا في الحرب. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال في وقت سابق، إنه يتوقع أن يتمكن من إقناع نظيره الروسي بتجديد اتفاق تصدير الحبوب، غير أن موسكو لم تؤكد أي خطة في هذا الاتجاه، حتى الآن. وردت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بفرض شبكة من العقوبات المالية والتجارية. وقال المستشار الألماني أولاف شولتس العام الماضي إن رؤية بوتين للعالم مشوهة بسبب “هوس القوة العظمى والإمبريالية”.
واستغل بوتين أيضا افتتاح “مؤتمر موسكو الحادي عشر للأمن الدولي”، منتصف الشهر الجاري، ووجه انتقادات حادة للقوى الغربية، وألقى باللوم عليها في تأجيج الاضطرابات بأنحاء العالم. وقال بوتين في رسالة عبر تقنية الفيديو إن السبب الوحيد وراء الصراعات في أنحاء واسعة من العالم هو “المغامرات الجيوسياسية والسلوك الأناني والاستعماري الجديد للغرب”. ولطالما اتهم بوتين الغرب بالتآمر ضد أي شيء، وكل شيء، ينتمي لروسيا. وبدا كذلك أن روسيا سعت إلى استغلال مؤتمر موسكو الأمني لتعزيز تحالفاتها. وكان وزير الدفاع الصيني الجديد لي شانج فو، ضمن المشاركين في المؤتمر.
ـ هل الشراكة بين روسيا والصين “بلا حدود”؟
الصين هي أكبر شريك تجاري لروسيا، وأحجمت بكين عن فرض عقوبات على موسكو على خلفية غزو أوكرانيا. وأعلنت الدولتان شراكة “بلا حدود” قبل فترة وجيزة من إطلاق روسيا غزوها لأراضي جارتها أوكرانيا. ولم تصدر القيادة في الصين إدانة علنية للغزو، بل ركزت، عوضا عن ذلك، على محاولة لعب دور الوسيط في الحرب. ولكن العملاق الصيني يصارع حاليا أزمة ربما تنجم عن الركود العقاري.
وتشكل دول بريكس الخمس حوالي 26% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ولكنها تظل بعيدة عن القوة الاقتصادية المشتركة التي تمثلها مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، أو دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. أما فيما يتعلق بالصراع في أوكرانيا، فموقف بكين ثابت لا يتغير، وقام وزير الدفاع الصيني بزيارة بيلاروس، حليفة روسيا القوية في 17 من الشهر الجاري.
ـ “أصدقاء” ضد هيمنة أمريكا
ووجه وزير التجاري الصيني وانج وينتاو انتقادات لأمريكا خلال قمة بريكس، دون أن يذكرها صراحة بالاسم، حيث قال: “ثمة دولة تسعى إلى الحفاظ على هيمنتها، وقامت بما في وسعها كي تكبل الدول الناشئة، والنامية”، وأضاف: “يجرى احتواء هؤلاء الذين يتطورون بسرعة، وإعاقة من يلحقون بالركب.” وأشار رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو مؤخرا إلى التوافق بين بلاده والصين عندما يتعلق الأمر بإقامة عالم متعدد الأقطاب. وفي أحيان كثيرة يتحدث لوكاشينكو، مثله في ذلك مثل بوتين، ضد ما يصفه بـ “الهيمنة الأمريكية”.
وقد أشاد لي ولوكاشينكو بخطط تعزيز التعاون العسكري بين بلديهما، في مينسك يوم 17 أغسطس الجاري. وقال رئيس بيلاروس إن من المتوقع أن تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة في عام 2024. كما شدد “الزعيم الاستبدادي” على أن بلاده تعتمد في المقام الأول على “صديقيها”، روسيا والصين، في الحصول على المساعدات العسكرية.
ـ كيف تنظر الأمم المتحدة إلى التغيير الجيوسياسي؟
دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر فبراير 2023، أي بعد عام من إطلاق الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا، إلى نهاية فورية للحرب، وصوتت 141 من الدول الأعضاء لصالح ذلك، في حين عارضت الدعوة سبع دول- بيلاروس وكوريا الشمالية وإريتريا ومالي ونيكاراجوا وروسيا وإيطاليا وسوريا. وكانت الصين والهند وباكستان ضمن 32 دولة امتنعت عن التصويت.
وشارك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش في قمة بريكس بجوهانسبرج، للدعوة إلى التعاون في مواجهة الأزمات. وقال جوتيريش: “حضرت إلى جوهانسبرج أحمل رسالة بسيطة: في عالم منقسم، تجتاحه أزمات طاحنة، لا يوجد ببساطة بديل عن التعاون. علينا أن نستعيد الثقة، وأن نعيد الحياة للتعددية، على نحو عاجل، في القرن الحادي والعشرين.” ودعا الأمين العام إلى إصلاح هياكل الحوكمة العالمية حيث إنها “تعكس عالم الماضي”، مباشرة عقب الحرب العالمية الثانية، وحذر من أنه “بدون هذا الإصلاح، يصبح التشرذم حتميا”. وقال أيضا: “هذا صحيح، على نحو خاص، في حالة مجلس الأمن الدولي، ومؤسسات بريتون وودز”، في إشارة لصندوق النقد والبنك الدوليين، اللذين يهيمن عليهما الغرب.