الوحدة الوطنية أغلى ما نملك
وهج الخليج – بقلم الدكتور سالم الشكيلي
ترددت كثيراً في كتابة هذا المقال ، لا لشيء إلا لأنني – ولله الحمد – أكثر من كتب في هذا الشأن ، إيماناً مني بأهمية الوحدة الوطنية لأي أمة تؤمن بوطنها وبنسيجه ولُحمته ، وهو أغلى وأثمن وأجمل ما تحقق في هذه البلاد منذ قيام نهضتها المباركة ، ولكن الذي دفعني للكتابة هذه المرة ، هو ما يحاصرني كلما ولجت إلى وسائل التواصل الاجتماعي من غثّ الكلام ومن تبادل للاتهامات بين بعض أبناء الوطن ، والدخول في مهاترات وسجالات لا طائل من ورائها غير شق الصف وزرع بذور الفتنة والخلاف ، الأمر الذي ينعكس في نهاية المطاف على وحدتنا الوطنية التي يحسدنا عليها الكثيرون ، وهو ممّا لا يمكن السكوت عليه وعنه .
لم يعد البعض منّا يحتمل الآخر ؛ وضاقت الصدور وارتفع صوت السب والشتم والذم والقدح ، وانبرى فريق يصف الآخر بأوصاف لم تكن شائعة عندنا ، مثل ؛ التطبيل والمطبلين والمداحين والمتسلقين ، وهي مصطلحات دخيلة بذيئة لم يعهدها الوعي والفكر العماني الذي جُبل على النقاء وطُهرالحرف والكلمة والسريرة ، ليس لذنب اقترفه أولئك المنعوتون بتلك الأوصاف ، أو جرم ارتكبوه ، ولكن لأنهم كانوا من الشجاعة والجرأة المحمودة ليعبروا عن رأيهم في بعض القضايا الوطنية وبكثير من الفخر والاعتزاز ، فتلك قناعاتهم ولا يحاسبون عليها ، ولا يجوز أن ننصب لهم مشانق التسفيه والاستهزاء والسخرية ، ويجب ألا يفهم من الحديث الدعوة إلى تمجيد وتعظيم الأشخاص مهما كانت مناصبهم ، فكلٌ له دور في الحياة ، وكل موظف له اختصاصات يتقاضى عليها أجر ، وليس منةً يمتنّها على الوطن .
ولكن ، على الجانب المقابل أيضاً نجد فريقاً أخر له أراؤه المضادة ، والاختلاف قيمة محمودة وحالة صحية ، لكن أن يحولوه إلى حالة من الهيجان والإسفاف في النقد الدائم القائم على مبدأ ” خالفْ تُعرفْ ” نقدٌ تستخدم فيه عبارات موجعة للأفراد والوطن ، تثبط العزائم وتستفز الأنفس ، وتوهن الهمم ، خطابهم منفّر مستفز ممجوج يلفظه كل ذي ذوق سليم ، فما بالك بالشعب العماني ذي الذائقة الراقية ، وقد يصل الأمر بهم إلى اتهام الآخر بالخيانة والعمالة للخارج ، وهو أمر لا نوافق عليه إلا مع قيام الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي لا يداخلها أدنى شك . ومع ذلك فإن تقديم البراهين والأدلة له جهات مختصة قائمة بما يجب .
أما المعتدلون من الكتّاب وبعض أصحاب الفكر ، فقد آثر بعضهم السلامة – كما يرون – وانسحبوا من المسرح لأسباب عدة ، لعلّ أبرزها أنهم لم يجدوا أذنا صاغية من جميع الأطراف.، ولا استثني أحداً في هذا المقام بما فيهم بعض المسؤولين ، الذين لا يلقون بالاً ولا يهتمون بما يُطرح من آراء وأفكار حول بعض القضايا الوطنية ، فلسان حال أولئك المسؤولين لسان فرعون ، حين قال : ” لا أُريكم إلا ما أرى وما أهدبكم إلا سبيل الرشاد “، فلا رأي إلا رأيهم .
قد يقول قائل؛ هذه حرية رأي ، وهي حقيقة نؤمن ونسلم بها ، وقد كفلتها الشريعة الإسلامية ، كما كفلها النظام الأساسي للدولة ، والقوانين الوطنية ، وهي ليست منّة من أحد ، ولكن الحرية في ممارستها السليمة ليست مطلقة ، بل تقيد هذه الممارسةَ الدينُ والقانون والأخلاق ، فحرية الرأي والتعبير عنه لا يقبل إثارة النعرات الدينية والمذهبية والقبلية والمناطقية ، لأنّ ذلك يثير الفتن ويؤلب القلوب وينشر الحقد والبغضاء ، فتهرأ حبال الوحدة الوطنية شيئاً فشيئاً حتى تتقطع ، ويتخلخل النسيج الاجتماعي وينفرط عقد اللحمة الوطنية ، وفي هذه الحالة تكون المصيبة عظيمة ، والخطب كبير وخطير .
ثمّ إنه ليس من الحرية في شيء ، أن يتحول النقد للتعرض للأشخاص بالسب والذم والقدح والاستخفاف والاستهزاء ، فما لا يقبله الناقد على نفسه لا يقبله الآخرون على أنفسهم ، وهذا مجرّم ومعاقب عليه قانوناً .
النقد الهادف البنّاء مطلوب في إطار أدبيات الحوار وموضوعيته ، دون تجريح لا بالتصريح ولا بالتلميح ، وهو ظاهرة صحية تتمازج به الأفكار وتسنتير به العقول الواعية المدركة لمبدأ الشراكة في الوطن والمؤمنة بالشفافية والمصداقية ، فصديقك من صَدََقَك لا من صدّقك ، وهو الذي يقوّمك إن أخطأت وينبهك عن الوقوع في الزلل .
إنّ مساحة الحرية المتاحة في بلادنا لا تتوفر في بلدان كثيرة ، وهذا ليس من باب التجميل أو التلميع ، وليسمح لي القاريء الكريم أن أتحدث عن تجربة شخصية ، فأنا وبفضل من الله لي تسعة عشر مؤلَّفاً حتى الآن ، بها ذكرٌ لما هو حسن وجميل ، وبها في المقابل آراء شخصية نقدية لجوانب مختلفة ، والله يشهد أنه لم يُمنع كتاب واحد منها من النشر ، ولم يُطلب مني حذف عبارة أو كلمة واحدة وكلها متاحة للجمهور ، كما لي عشرات المقالات وعشرات الحوارات الإعلامية أقول فيها بصراحة واضحة كوضوح الشمس في رائعة النهار ، أتفق في مواطن كثيرة ، وأختلف في مواطن أخرى ، ومع ذلك لم أُسأل يوماً عن رأي قلته لمَ قلتُه ، وعمّا لم أقلْه لمَ لمْ أقلْه ، ليس لأني خارج دائرة المساءلة أو فوق القانون ، بل لأنني أحكّم العقل والمنطق وأناقش بموضوعية ، لا اتعرض للأشخاص أو الجهات بسبّ أو قذف أو تجريح أو إثارة ، أقول رأيي وأمضي ، ولا أبالي .
لقد تابعت ما يُنشر مؤخراً على الصفحة المسماة × وما افزعني حقاً ما يثار حول المذهبية الدينية ، والردود والتعليقات المتبادلة ، وما افزعني أكثر دخول بعض الحسابات المشبوهة ومن خارج الحدود للاصطياد في الماء العكر ، وكأنها كانت تتحين الفرصة لمثل هكذا موقف ، تترقب كي تتسلل من خلالها لبثّ سمومها ، وربما وجدت في هذا الموقع ضالتها .
وبمناسبة هذا المقال أود توجيه ثلاث رسائل غاية في الأهمية ، وهي :-
* الرسالة الأولى ، لبني وطني وأنا واحد منهم ؛ إن النبش والإثارة في النعرات الدينية والمذهبية لن يولد إلا الخصام والشقاق بين أفراد المجتمع ،فلقد تربينا وعشنا في هذا الوطن على المحبة والألفة والتسامح والاعتدال ، كلنا عمانيون، أباضية وسنة وشيعة ، بيننا صلة دم ونسب ومصاهرة ، وتجمعنا مصالح وصداقات حميمة ، فلنحافظ على كل هذه النعم التي أنعم الله بها علينا ، ولنتفق على مشتركات أساسية لا نعبث فيها ولا نسمح لغيرنا الاقتراب منها وهي ؛ وحدتنا الوطنية ، وأمن واستقرار عمان ، والمحافظة على المصالح العليا للوطن ، والالتفاف حول ولي الأمر ، وليكن الاختلاف في المسائل الأخرى والحوار حولها بروح الأخوة والحوار الهاديء متمسكين بسماحة ديننا الإسلامي الحنيف والأخلاق الحميدة.، التي جُبلنا عليها دون ضجيج أو صراخ أو لمز أو غمز أو شماتة في الآخر ، فالشماتة والغلوّ ليسا من أخلاق النبلاء الكرام .
* الرسالة الثانية إلى جهات الاختصاص ، إذ عليها أن تركز في خطابها الديني والإعلامي على مبدأ المواطنة والتعايش والتسامح والاعتدال ، فالاهتمام بالداخل كان أولى من إقامة المؤتمرات والفعاليات في هذا الشأن في الخارج ، وكان حريٌّ بكم أن تخصصوا ولو جزءاً من تلك الفعاليات على الداخل لتقوية الجبهة الداخلية واللحمة العمانية ، كما يجب على الجهات المختصة أن ترسخ مبدأ المساواة بين الجميع ومساءلة من يقدم على شق الصف وزرع بذور الفتنة دون تمييز بين سني أو أباضي أو شيعي ، فالكل أمام القانون سواء..
* الرسالة الثالثة ، إلى كل من يحاول الاصطياد في الماء وإثارة النعرات ، سواءً من خلف الحدود أو من داخلها ، نقول لكم ؛ لن تفلحوا في مآربكم ونواياكم ، وستبوؤن بالفشل كسابق محاولاتكم الهدامة ، فعمان ستظل كما أراد لها السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه ، وكما يريد لها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ، أمة واحدة تنبذ كل رائحة كريهة عفنة ؛ لأن هذه الأرض لا ينبت فيها إلا الطيب ، رائحته كرائحة المسك ، وسيحفظ الله عمان وشعبها من شروركم فهو خيرٌ حافظاً ونصيراً .
وسأظل ومعي قلمي ينضح وصوتي يعلو – وغيري كثر – يدعو إلى تعزيز الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي واللحمة العمانية ، ما بقي في جسدي عرق ينبض ونفَس يهبط ويصعد .
والله من وراء القصد وهو المستعان .