رياض سلامة .. من جوائز التكريم إلى نهاية ولايته وسط الملامة والتحقيقات
وهج الخليج – وكالات
كان على مدى سنوات عرّاب استقرار الليرة وانتعاش الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية، فحصد جوائز وتكريما في العالم، لكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ينهي الإثنين ولاية طالت ثلاثة عقود مكروها من شرائح واسعة من اللبنانيين ومستهدفا بتحقيقات قضائية أوروبية ومحلية حول ثروته وأدائه، ووسط انهيار اقتصادي غير مسبوق في لبنان.
وسلامة (73 عاماً) الذي شغل منصبه منذ العام 1993، يُعتبر أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم.
يعدّ سلامة مهندس السياسات المالية في مرحلة تعافي الاقتصاد ما بعد الحرب الأهلية (1975ـ 1990). لكن على وقع الانهيار الاقتصادي غير المسبوق الذي يشهده لبنان منذ 2019، يُحمِّل كثر أركان الطبقة الحاكمة وسلامة، مسؤولية الفشل في إدارة أزمات لبنان المتلاحقة.
وتحمّل جهات سياسية ومحللون ومواطنون في لبنان سلامة مسؤولية انهيار العملة الوطنية، وينتقدون بشكل حاد السياسات النقدية التي اعتمدها طيلة السنوات الماضية، باعتبار أنها راكمت الديون وسرّعت الأزمة، إلا أنه دافع مراراً عن نفسه بتأكيده أن المصرف المركزي “موّل الدولة ولكنه لم يصرف الأموال”.
ومنذ بدء الانهيار الاقتصادي قبل ثلاث سنوات، دافع سلامة أيضاً عن السياسة النقدية التي اعتمدها، معتبراً أنه حاول “التخفيف من وطأة الأزمة”.
وقال خلال مقابلة مع قناة محلية قبل أيام من انتهاء ولايته، “سأطوي صفحة من حياتي وأعتقد انه بين الثلاثين عاماً، 27 عاماً ساهم خلالها البنك المركزي بسياساته النقدية بإرساء الاستقرار والنمو الاقتصادي”.
ومنذ عامين، تشكّل ثروة سلامة محور تحقيقات في لبنان وأوروبا. ويصرّ الرجل الذي نال جوائز إقليمية ودولية وأوسمة شرف تقديراً لجهوده في منصبه وكان أول حاكم مصرف مركزي عربي يُقرَع له جرس افتتاح بورصة نيويورك، على أنه جمع ثروته من عمله السابق طيلة عقدين في مؤسسة “ميريل لينش” المالية العالمية ومن استثمارات في مجالات عدة بعيدا عن عمله على رأس حاكمية مصرف لبنان.
ـ هروب إلى الأمام”
ويقول اقتصادي مخضرم وخبير في الأسواق المالية، متحفظاً عن ذكر اسمه، لوكالة الأنباء الفرنسية”لقد كان تاجراً ووسيطاً طيلة حياته، وهذه هي المشكلة. هناك حاجة الى شخصية اقتصادية لإدارة مصرف مركزي، لا الى شخص مقرّب من النظام المصرفي ويودّ حمايته”. في المقابل، يرى الخبير الاقتصادي نيكولا شيخاني أن سلامة “عرِف كيف ينعش الاقتصاد ويكسب ثقة المستثمرين”.
وتمكّن لبنان بالفعل طيلة سنوات من جذب رؤوس أموال من الخارج، مقابل منح فوائد مرتفعة للغاية للمودعين. وبات القطاع المصرفي ركيزة رئيسية في الاقتصاد اللبناني.
ومنذ توليه منصبه، حافظت الليرة على استقرارها بعدما ثبّت سلامة سعر صرفها على 1507 ليرات، وهو ما كان يبرّره بوجود “احتياطات مهمة بالدولار الأميركي” لدى المصرف المركزي سرعان ما نضبت منذ بدء الأزمة التي برزت مع امتناع الحكومة اللبنانية عن دفع ديونها المستحقة. فبدأ الانهيار وشحّت السيولة. ومنذ تعيينه، تم التجديد لسلامة أربع مرات. نال في العام 2006 جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم من مجلة “يورو موني”، ثم من مجلة “بانكر” عام 2009، وحاز أوسمة شرف فرنسية.
ومع اندلاع الحرب في سوريا المجاورة بدءاً من العام 2011، “بدأت تتراكم الإشارات الحمراء”، وفق شيخاني. وتأثّر الاقتصاد اللبناني سلباً بينما كانت الديون الرسمية تتراكم. ورغم إحجام الحكومات المتعاقبة عن إعادة هيكلة الاقتصاد وإجراء إصلاحات ملحة، واصل سلامة تمويل الدولة بغطاء سياسي، متبعاً، وفق شيخاني، سياسة “الهروب الى الأمام”.
وبغطاء سياسي، انخرط سلامة منذ العام 2016 في هندسات مالية هدفت إلى الحفاظ على قيمة الليرة ورفع احتياطي المصرف المركزي ورسملة المصارف، لكن خبراء اقتصاديين يعتبرونها من بين الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تعميق أزمة لبنان المالية.
ـ الليرة بخير
يتكلّم سلامة بصوت منخفض ومن دون أي انفعالات. ولا يبتسم علنا إلا نادرا. مع بدء أزمة شحّ السيولة وفرض المصارف قيوداً مشددة على سحب الودائع خصوصاً بالدولار في خريف 2019، أصرّ في الأشهر الأولى على أن “الليرة بخير”. اليوم وبعد أكثر من ثلاث سنوات على انهيار صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، فقدت العملة المحلية أكثر من 98 في المئة من قيمتها أمام الدولار. ورغم الانتقادات التي طالت أداءه، وشبهات الاختلاس وغسل الأموال والإثراء غير المشروع التي تلاحقه في لبنان والخارج، بقي سلامة في منصبه، مستفيداً من حماية سياسية توفّرها له قوى رئيسية في لبنان.
ويرى البعض إنه كان طامحا للوصول الى رئاسة الجمهورية، ما يبرّر “عدم رفضه أي طلب من الطبقة السياسية”. رغم التحقيقات التي بدأت تطاله منذ سنتين، أصرّ سلامة على البقاء في منصبه جتى اللحظة الأخيرة.
ويشتبه محقّقون أوروبيون بأنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وبأنه أساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان.
وبناء على التحقيقات، أصدرت قاضية فرنسية في باريس والمدعية العامة في ميونيخ مذكرتي توقيف بحق سلامة جرى تعميمهما عبر الانتربول. لكن سلامة يرفض التهم الموجهة إليه، متحدثا عن “بيانات مزورة” وخلفيات “سياسية”. ولا تعني انتهاء ولاية سلامة أنه سيغيب عن الأضواء، إذ إن التحقيقات بشأنه لن تهدأ قريباً.