براغيث الفتن
بقلم: الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
البرغوث مفرد ، والجمع براغيث ، وكما هو معلوم حشرة من الحشرات ، بها من الصفات الخَلقية ما يجعل المرء يجفل منها ويشمئز ،. فهي تمتص دم الإنسان والحيوان وتنقل الأمراض الجرثومية الخطيرة . ومن بينها مرض الطاعون والعياذ بالله .
والبراغيث التي أقصدها هنا ، وللأسف الشديد هي البراغيث البشرية ، وهي أشد فتكاً وأكثر خطراً ، تحمل ذات الخصائص في نقل جراثيمها ونفث سمومها ؛ لأجل زرع بذور الفتن بين أبناء الأمتين العربية والإسلامية سواءً في المجالات السياسية أو الدينية أو الأمنية ، وتكمن خطورتها أنها براغيث هجينة ، قد غُسلت أدمغتها فأصبحت تأتمر بأوامر خارجية ، وقد رضيت واستباحت لنفسها أن تكون ألعوبة بأيدي أولئك المتآمرين العالميين ، فباعوا ضمائرهم واستخفّوا بأوطانهم وشعوبهم ، واستخفوا خلف شعارات برّاقة ، هدفها الهدم والنخر في جسد الأمّتين العربية والإسلامية ، وهو مخطط على ما يبدو يهدف لإشغال العرب والمسلمين بخلافاتهم وفرقتهم وتشتتهم وضعفهم ، وهذه البراغيث – كما قلنا – ليست إلا أدوات وبيادق تحركها أيادٍ خارجية .
لا يخفى على أحد أنّ الأمتين العربية والإسلامية تعاني من نكبات متلاحقة منذ أكثر من أربعين عاماً ، متفوقة على كل الفترات التي استغرقتها كل الحروب والبغضاء التي يذكرها التاريخ العربي القديم ، كحرب البسوس بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ، وبين بني شيبان وأحلافهم من قبيلة بكر بن وائل .
مَن منّا لا يذكر الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت عام 1980 م ، وتخندق العرب والمسلمون وانقسموا إلى طرفَي الحرب ، وهي حرب راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجانبين قتلى ، والملايين من المصابين ، واستنزفت أموالاً طائلة كان الأولى أن توجّه إلى برامج التطوير والتنمية ، وخلفت دماراً هائلاً في البنية التحتية لكلا البلدين المسلمتين الجارتين ، امتدت آثارها إلى كل دول العالم الإسلامي ، وفي أخر المطاف انتهت إلى لا شيء يذكر في مشهد عبثي غريب .
وظلت سلطنة عمان كعادتها على الحياد الإيجابي ، وبقيت على مسافة واحدة من الطرفين تمارس دور الوساطة والتهدئة .
* وما كادت تلك الحرب اللعينة تنتهي ، حتى أعقبها الرئيس الراحل صدام حسين بخطيئته الكبرى ؛ إذ قام بغزو جارته الشقيقة الكويت ، فتقطعت أوصال الأمة العربية من جديد ، ورغم جهود بعض الدول ومن بينها سلطنة عمان لإقناع الرئيس العراقي بالانسحاب الفوري من دولة الكويت ، إلا أن هذه الجهود لم تفلح ، وعلى إثر ذلك قامت عاصفة الصحراء، وإيماناً من السلطنة بقواعد القانون الدولي العام ووجوب احترام مبدأ سيادة الدول كانت القوات العمانية في طليعة قوات درع الجزيرة لدول مجلس التعاون الخليجي .
* لم تكد جروح تلك الخطيئة تبرأ حتى ظهرت بوادر نكبة جديدة تتعلق بمزاعم امريكية وغربية حول امتلاك العراق لأسلحة كيماوية ودمار شامل ، هدفها تدمير القدرة العلمية والعسكرية المتنامية للعراق ، وتصدرت المشهد المخابرات الأمريكية والبريطانية بتزوير الاتهامات وتلفيق الأدلة ، والتي رأت في العراق قوة مهددة لإسرائيل وللتواجد الغربي في الخليج الذي يرونه إرثاً لا يجب أن ينازعهم فيه أحد ، من أجل ذلك وغيره من الأهداف شنّوا حرباً لا هوادة فيها على العراق عام 2003م استخدمت أمريكا وحلفاؤها كافة الأسلحة الفتاكة جواً وبحراً وبراً دكّت القوة العسكرية للعراق وبنيته التحتية أرجعته إلى أكثر من قرن إلى الوراء ، واحتلت أمريكا العراق في حالة غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين ، وعملت على تقسيم العراق طائفياً حتى لا تقوم له قائمة ، فأمريكا تدرك خطورة الطائفية على النسيج المجتمعي ؛ فاجتهدت في ذلك ونجحت للأسف الشديد .
* وجاءت قاصمة الظهر الكبيرة ، فيما يعرف بثورات الربيع العربي عام 2011م، وكان ظاهر هذه الثورات محاربة الفساد والاستبداد وتحسين الأوضاع الاقتصادية للشعوب ، لكنها أنتجت غير ذلك ، فتمزقت أنسجة الشعوب العربية في تلك الدول وزاد فقرها ، وأعقب ذلك ظهور استبداد للحكم أكبر من ذي قبل، بحجة الخوف من تكرار تلك التجربة المريرة .
ولم تفطن معظم الأنظمة العربية لما يحاك ضدها من دسائس من الدول الغربية وبعض الدول الإقليمية ، فتهاوت أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ، وانقسم الشعب الواحد فيها إلى شيعٍ وفرقٍ كل فرقة بموالاتها ، ورهن قرارها للخارج ، مستمدة قوتها منه ، فرحة بذلك بل وتعلنه بتبجح .
وإذا للغرب يدٌ في تلك الثورات ، فإنه وبلا شك ، فإن الأنظمة العربية كانت أحد أسبابها ، بابتعادهم عن شعوبهم وباستبدادهم وبغياب العدالة الاجتماعية وغيرها من الأسباب التي جعلت الشعوب العربية تنساق خلف أوهام رأوها ربما تكون سبباً في إصلاح أوضاعهم المعيشية والأمنية .
* وتتوالى الفواجع والمواجع العربية ، في صورة الحصار على دولة قطر والذي استمر قرابة 3 سنوات .
* ونسمع اليوم عن خلافات عميقة بين المغرب والجزائر ، وبين عدد من الدول العربية الأخرى بينها وبين بعضها البعض ، غير آبهين ومتغافلين أن من يقف وراء كل ذلك من لا يريد لهذه الأمة الخير والتقدم والتطور والازدهار يعيشون في سبات عميق وكأنهم في ظلمات في بحر لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ، وهم بذلك يهيئون الفرصة تلو الأخرى لتلك البراغيث للخروج من جحورها لتوجه سمومها للمصلحين من هذه الأمة ، فلغة التخوين لديهم هي الطاغية ، وأسلوب العمالة لأمريكا والغرب هو الشائع ، فانعقدت ألسنتهم عليها يقيسون بها على أنفسهم ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر :
– عندما سعت بعض الدول العربية ومن بينها سلطنة عمان لإعادة سوريا إلى حظيرة الجامعة العربية بعد عزلها منذ اندلاع الأحدث عام ٢٠١١م ، ورغم أنّ العزلة لم تفلح ، بل أنها عقّدت الأوضاع هناك ، وتركت سوريا فريسة للصراعات الداخلية والتدخلات الإقليمية والدولية وغدت مسرحاً مباحاً لكل طامع وغازٍ ، وكان الشعب السوري هو الضحية لذلك وانقسمت الأرض السورية ارضاً وشعباً لتتحقق أهداف المتآمرين عليها .
– أما المثال الأخر فهي القطعية بين إيران وبعض الدول العربية والتي مضى عليها عقود من الزمن ، مما ساهم في تأجيج النزاعات المذهبية الإسلامية والتنافس المحموم على النفوذ في المنطقة وتوجيه الاتهامات ، وعندما قيض الله من يسعى للتقريب بين إيران والسعودية من جانب ، وإيران ومصر من جانب آخر ، انبرت بعض الأصوات والأقلام المسمومة وبذات اللغة الممقوتة ، بل وزادوا عليها هذه المرة بأن أي تقارب من هذا النوع سيؤدي إلى انتشار التشيع ، فتنة تعقبها فتنة ، فما إن تهدأ فتنة حتى يشعلوا غيرها ، دعوا الفتنة نائمة ، لعن الله من أيقظها .
والغريب في كل هذا، هو التصويب المغرض لبعض هذه البراغيث سهامها نحو السياسة العمانية القائمة على الحياد الإيجابي والاعتدال والتسامح ، ومجالها العمل على توحيد الصف العربي والإسلامي إيماناً منها أن قوة الأمم في وحدتها وتماسكها ، وأن من حق الشعوب أن تعيش في أمن وأمان واستقرار بعيداً عن ويلات الحروب والصراعات التي تعاني منها ، والتي أدت إلى تأخرها في كافة ميادين الحياة وباتت توصف بدول العالم الثالث أو الدول النامية ، مع أنّ لديها من الإمكانيات المادية والبشرية ما تتفوق به على غيرها من دول العالم الأخرى .
إنّ الأمتين العربية والإسلامية احوج ما تكون في هذه المرحلة العصيبة من تاريخها إلى رأب الصدع وتوحيد الكلمة ، والتعاون في مجالات الاستثمار المتبادل والاقتصاد والصناعة والسياحة والتجارة البينية ، وإن كان ثمة خلاف في التوجهات السياسية فلتنحّ بعض الوقت حتى تقوى شوكتهم وبعدها يصار إلى تفاهمات وتقارب وحلحلة أوجه الاختلاف ، ولهذا فإن أبواق الفتن يجب أن تلجم ولو بالقوة ، فلسنا بحاجة إلى الطويل أو القصير، ولا شمس الدين أو نارها، ولا القرشي أو غير القرشي، ولا إلى البصري أو علاونة ، ولا إلى أمثال هؤلاء الذين أفسدوا الذوق والفكر العربي ، بل نحن بحاجة إلى القول الطيب والكلمة الحسنة والتسامح والاعتدال في القول والعمل والفكر المتزن .
لقد تكالبت ولا زالت تتكالب على المسلمين الأمم بسبب هوانهم وضعفهم وتشتتهم ، ودخلت عليهم من أبوابٍ شتى ، وقد حذّر من هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث الصحيح عن ثوبان رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( تُوشك الأمم أن تداعى عليكم ، كما تداعى الأكلة على قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ !؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله ، وما الوهن؟ قال : حب الدنيا ، وكراهية الموت ) .
يا أمة الإسلام إلى متى ستظلين قلقة غير مطمئنة ساهرة لا يغمض لكِ جفن وكأنك ترقبين النجم ، والنجم يرقبك، ألم تتعبي من أوجاعك وهمومك، وآهاتك وأحزانك !؟ ، أما آن لكِ أن تنتفضي من نومك وسباتك ، وتتخلصي من وعثاء غربتك الطويلة لتستعيدي أمجادك وأمجاد أجدادك الذين حكموا ودانت لهم الدنيا ؟ أما حان الوقت لتردي على الشاعر العربي محمود غنيم بملحمة انتفاضة حقيقية ؟ ألم تستنهض حماسته الشعرية وثورته العروبية الإسلامية همم المسلمين ، حينما قال :
مالي وللنجم يرعاني وارعاه أمسى كلانا يعاف الغمضَ جفناه
لي فيك ياليل آهاتٌ أردّدها
أوّاهُ لو أجْدت المحزونَ أواهُ
لا تحسبني محبًّا يشتكي وصبًا
أهوِنْ بما في سبيل الحب ألقاهُ
إني تذكرت والذكرى مؤرقةٌ
مجدا تليدا بأيدينا أضعناه
ويحَ العروبة كان الكون مسرحها
فأصبحت تتوارى في زواياه
أنَّى اتجهتَ إلى الإسلام في بلدٍ
تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرّفتنا يدٌ كنا نصرّفها
وبات يملكنا شعبٌ ملكناه
أسأل الله العظيم أن لا يطول سبات أمة الإسلام…