المحسوبية إحدى صور الفساد
بقلم الدكتور : سالم بن سلمان الشكيلي
تعتبر المحسوبية أو المحاباة أو الواسطة إحدى صور الفساد ، تتنوع وتتوزع ما بين الوسط السياسي ، وداخل المنظمات ، وفي العمل ، وهي – أي المحسوبية – متفشية بشكل واسع ، تتشارك فيها الدول المتقدمة أو الدول النامية سواءً بسواء ، إمّا في القطاع العام وإمّا في القطاع الخاص ، مع تفاوت في درجة التفشّي ومساحتها وحجمها والطرق المختلفة في تناولها ، بحسب ثقافة المجتمع ، وصرامة القانون المجرّم لها ، ودور الأجهزة الرقابية في الكشف عن المخالفات والتجاوزات ، وتطبيق مبدأ المساءلة على الجميع دون استثناء .
والمحسوبية تعني ، “تقديم وتفضيل الأقارب والأصدقاء على حساب الكفاءة”، فهي كما عرّفها ريتشارد جراهام : بأنها مجموعة من الأعمال تستند على مبدأ ؛ “خذ هناك، أعط هنا”، وهو سلوك يقوم على تبادل المنفعة ، ولذلك فهي قائمة على النفعية والمصالح المتبادلة سواء – في نظرنا – مادية أو معنوية .
وبحسب الدراسات البحثية ، تعود المحسوبية بجذورها إلى عصر روما القديمة ، حيث كان نظام الطبقية الإقطاعية ” وتعني ، طبقة كبار ملاكي الأراضي ، ارتبط الفلاحون بالعمل في أراضي النبلاء وكبار المُلاّك ضمن أعمال القنانة (العبودية) ، ثم تطورت لاحقاً إلى أعمال سخرة جماعية لكل من يسكن من الفلاحين ضمن إطار ممتلكات هذا الإقطاعي أو ذاك ” ، ثم انتشرت في كثير من دول العالم المتقدم منه أو النامي حسب التقسيم المتداول ، وإن كنا لا نؤمن بهذا التقسيم على إطلاقه ، إذ لا تكاد تخلو دولة من دول العالم من هذه الأفة المقيتة ، ومن الأمثلة الشائنة على ذلك :
– عندما تم انتخاب السيناتور فرانك مركوفسكي حاكماً لولاية ألاسكا قام بتعيين ابنته ليزا ممثلاً للولاية بدلاً منه للعامين المتبقيين من حكمه .
– كما إنّ الرئيس الأمريكي جون كينيدي عيّن أخاه روبرت كينيدي مدّعياً عاماً في فترة حكمه .
– وحينما سيطرت عائلة تون عبدالرزاق على السلطة في ماليزيا ، وبالرغم من أنه يعتبر أبا التنمية في ماليزيا ، عيّن ابنه نجيب تون عبد الرزاق في المنظمة الوطنية الماليزية ” الحزب الحاكم ” .
– والحال كذلك في سنغافورة في عهد أول رئيس للوزراء فقد عين ولده لي هسين لونغ خلفاً له .
أمّا في الدول العربية فحدّث عنها ولا حرج ، وقد تُكتب بخصوصها قصص على شاكلة كتاب ألف لية وليلة ، وكتاب كليلة ودمنة ، مع اختلاف المحتوى والمضمون بالطبع .
قد يتساهل البعض منّا في موضوع المحسوبية ، وقد يكيّفها البعض الأخر من باب فعل الخير أو المعروف ، حتى شاع أمرها واستفحل خطرها وضاقت الناس ذرعاً منها ، وهي في حقيقة الأمر مظهر فاضح من مظاهر الفساد ؛ لأنها تخلّ بمبدأ المساواة بين المواطنين وتضرب مبدأ تكافؤ الفرص في مقتل ، وتنتهك قيم الأخلاق والدين ، ناهيك عن المخالفة الصارخة لقواعد القانون التي تقضي بأن يكون الأفراد متساوين في الحقوق والواجبات ، ولا تمييز بينهم بسبب الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين أو المذهب أو المركز الاجتماعي . بالإضافة إلى ذلك فإن المحسوبية تلتهم وتهضم الكفاءات الوطنية حقها المستحق ، ويتولد الإحباط وقلة الإنتاجية بسبب تبوّء بعض الأشخاص غير المؤهلين لإدارة الشؤون العامة والخاصة .
ومن الصور العديدة للمحسوبية ؛ التعيين في المناصب ، والترقية ، وصرف المكافأت والعلاوات الاستثنائية للأقارب والأصدقاء والمقربين في غياب العدالة والمساواة ، واستباحة الاستثناءات والمنافع والمزايا غير المبررة قانوناً ، ونحن ننظر ونعتبر أنه حتى مجرد تقديم دور المراجع من دوره في الانتظار بسبب المعرفة بمن يملك القرار ، نعتبرها محاباة ومحسوبية لا شك فيها ، حتى وإن عدّها البعض أمراً هيناً ومسألة عادية ، ربما تفرضها الوجاهة والمركز الاجتماعي ، إلا إنها تثير الحنق والسخط عند الأخرين ، وإن سكتوا فإنما يكون سكوتهم على ضيم وألم مكبوت مكتوم ، وهم يرون ذلك السلوك بأعينهم ، وهم لا يستطيعون لردع ذلك سبيلاً ، كما أنهم لا يجدون ملجأً أو مُدّخلاً فيه إنصافهم .
ومما لا شك فيه أنه يترتب على ظاهرة المحسوبية ظواهر أخرى أكثر إيلاماً وأشد خطورة عن سابقتها ، تتمثل في شيوع الرشوة وتقديم الهدايا كقرابين للمغفرة ، وظهور الولاءات للأشخاص بدلاً من الولاء للوطن ، والنفاق والتزلف لأصحاب النفوذ والمسؤولية حتى يظفر أولئك بالرضى وكسب الغنائم ، وهم جميعاً لاهون غافلون يحسبون أنهم يُحسنون صنعا ، ولكن ضلّ سعيهم ، وهم عن الحق منصرفون ، فريق يتمادى في استغلال السطوة والنفوذ ، وفريق يتباهى بقربه منهم ، أو أنه يُعتبر محسوباً عليهم .
وتبقى ظاهرة المحسوبية والواسطة رغم شيوعها في بيئات الأعمال من الأفعال والسلوكيات غير الظاهرة أحيانآ ، ممّا يصعب اكتشافها ؛ لصبغها تارة بالمصلحة العامة ، وبالملاءمة والمواءمة تارة أخرى ، وبالتمسك بتلابيب الضرورة والاستعجال تارة ثالثة ، وكل ذلك لإضفاء الشرعية على تصرفاتهم المشبوهة والمشينة .
والحقيقة إن ديننا الإسلامي الحنيف لا يعرف المحاباة ولا يقرّ المحسوبية ؛ بل يقيم موازين القسط والعدل والإنصاف ، ويدعو إلى المساواة وعدم التمييز بين البشر ، وقيم الأخلاق والفطرة السليمة تشمئز من أي عمل أو فعل يخالف تلك المباديء السمحة . والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول : ” إذا وُسِد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة ”
“والواسطة التي تؤكل بها حقوق الآخرين ، وتعتدي على مبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين ، تُعد شكلاَ من أشكال الفساد ، ولوناً من ألوان الظلم الاجتماعي الذي حرمه الله عز وجل ، حيث قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ( يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا…) رواه مسلم . ويتجلى هذا الظلم والفساد عندما تؤخذ حقوق الآخرين، أو يوضع شخص في مكان لا يستحقه ، أو يعتدى على حقوق الآخرين “. (فتوى)
وجاء النظام الأساسي للدولة واضعاً تلك الأسس ضمن المباديء الموجهة لسياسة الدولة ، فيما جاء قانون الجزاء العماني مجرّماً لمثل هذه الممارسات الخارجة على نطاق القانون ، كما حظرتها القوانين الأخرى ، مثل قانون الخدمة المدنية ، والقانون المالي ، وقانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح ، وغيرها من القوانين .
)
ولكن يبقى التطبيق الفعلي لهذه القوانين وتكريس مبدأ المساءلة هو العاصم من تفشي المحسوبية وما ينتج عنها من ظواهر سلبيّة .
إنّ التنشئة الصالحة للأجيال وغرس الأخلاق الحميدة في نفوسهم منذ الصغر أمر ضروري وواجب ، وترسيخ قوة الإيمان بالله والاعتماد عليه جلّ شأنه ، وتربيتهم على أن يكونوا عصاميين معتمدين على سواعدهم وكفاءاتهم الذاتية ، وألا يكونوا اتكاليين على مزاعم واهية كالوجاهة وتربّع الأقارب للوظائف العليا ، وأن يدركوا أنّ التزلف والمحسوبية تنال من الكرامة الإنسانية ، وتجعل من يلجأ إلى طلب الواسطة ذليلاً صاغراً ، يُؤمر فيطيع ، لا يملك من أمره إلا السمع والطاعة دون إعمال للفكر والعقل . وهنا نؤكد على دور المناهج التعليمية في ترسيخ ذلك ، ودور القدوة ، واستحضار النماذج المشرفة في التاريخ العماني والإسلامي في هذا المجال .
ولا بدّ لنا من التركيز أيضاً على دور الإعلام ، باعتباره دوراً مكملاً في محاربة هذه الظاهرة ، وذلك من خلال الحض على تجنب المحسوبية والمحاباة والواسطة ، وبيان خطورتها وآثارها السلبية على الدولة والمجتمع ، بعمل اللقاءات من ذوي الاختصاص سواءً من العلماء والمشايخ الكرام والمربّين والنفسانيين ورجال الأعمال .
كما يجب على الأجهزة المختصة تفعيل دورها في الرقابة والمساءلة ؛ فذلك أدعى لصلاح الأمة ونبذ شرور الاتهامات والقيل والقال ، وسدّ الفجوات التي يتسلل منها شياطين الإنس فيثيروا الفتنة ويزرعوا اليأس والنقمة .