“قعد الفلج”.. نحو تنظيم إلكترونيٍّ لتحديد الحصص والمواعيد
وهج الخليج – مسقط
أجمع عددٌ من المختصين في الشأن الزراعي بسلطنة عُمان على اعتناء المواطن العُماني بمفردات بيئته المنظّمة لحياته اليوميّة خاصة فيما يتعلق بالأنماط الزراعيّة لديه وما يصاحبها من شؤون تنظيميّة.
وتعدّ الأفلاج مؤسّسة اجتماعيّة متكاملة، ومن مكوّناتها ما يسمى بـ “قعد ماء الفلج”، وهو نظامٌ تمويليٌّ غير ربحي تُستغل عوائده المالية في الصيانة الدورية للفلج؛ ما يحقق ديمومة ماء الفلج وانسيابية جريانه والتنمية الزراعية.
وبما أن قعد الفلج إرثٌ معرفيٌّ ضاربٌ في جذور التاريخ؛ يحرص العُمانيون على إقامته عن طريق المزايدة العلنية التي يطلق عليها محليًّا بـ (المناداة)، أسبوعيًّا أو سنويًّا، أو حسب دورة الفلج.
وفي الوقت الحالي، يعمد العديد من الولايات العُمانية إلى الانتقال إلى أنظمة إلكترونية لتحديد حصص ومواعيد الفلج، وتأتي عملية قعد ماء الفلج إلكترونيًّا لتسهيل أنظمة تقسيم الأفلاج، وتوفير الوقت والجهد لدى المزارع.
وفي هذا السياق المعرفي والاجتماعي يؤكد الدكتور عبدالله بن سيف الغافري أستاذ كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى على أن قعد الفلج نظامٌ تفردت به سلطنة عُمان ويحقق الاكتفاء المالي والاستقلال الإداري للفلج، مضيفًا أن الفلج استطاع على مرّ التاريخ أن يوفر الأموال الكافية لصيانة السواقي وإزالة الأعشاب الضارة منه وإصلاح البوابات المائية وتسمى العملية محليًّا (شحاب أو تشحيب الفلج) وذلك بالدخول من أم الفلج (النقطة الأولى للفلج) والخروج من الشريعة (مكان ظهور المياه على السطح)، وتتم كل 3 أو 6 أشهر حسب حجم الفلج وإمكاناته المالية، فمثلًا فلج دارس تتم فيه هذه العملية كل ثلاثة أشهر.
وقال إن فوائد قعد الفلج لا تقتصر على صيانته بل تتعدى ذلك لتشمل الكفالة الاجتماعية ككفالة الأيتام، وتمويل المدارس، ونسخ الكتب، كما تشمل الترفيه مثل تقديم الحلوى للمصلين بعد صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك في بعض قرى ولاية نزوى، مشيرًا إلى أن قعد الفلج يتكامل مع نظام طناء النخيل.
ووضح أنه في كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى يتم حاليًّا دراسة قعد الفلج بشكلٍ دقيق من الناحيتين الاجتماعية والتاريخية، والعمل على مشروع اللمد وهو نظام إدارة الأفلاج العُمانية إلكترونيًّا، ويُعنى بإدارة مواقيت سقي الأفلاج العُمانية إلكترونيًّا وبالقواعد والأسس نفسها التي تقوم عليها الأفلاج حاليًّا بالشراكة بين وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه وكرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج بجامعة نزوى بتمويل من صندوق التنمية الزراعية والسمكية.
من جانبه يقول عبد العزيز بن يحيى الخروصي عضو مجلس إدارة فلج العوابي إن قعد ماء الفلج ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ تُقام سنويًّا في الولاية من خلال تأجير مُلّاك الماء الزائد عن حاجتهم لمن يرغب من المزارعين في زيادة حصتهم بالسقي (ريّ المزروعات)، ويكون العائد من قعد الماء وقفًا للمساجد والأفلاج والمدارس وغيرها، أو دعمًا لدخل الأسر عن طريق استثمار ماء الفلج.
وأكد على أن هناك تمسّكًا بهذا الموروث في توزيع ماء الفلج مع العمل على التطوير المستمر بما يتماشى مع متطلبات العصر، فسابقًا يوجد ثلاثة عرفاء للفلج يحدّدون مواعيد الري، وفي السنوات الأربع الأخيرة تم استحداث نظام إلكتروني لتحديد حصص ومواعيد الفلج وجدولته، ولم تُسجل أي أخطاء في هذه المواعيد.
وأضاف: يتم التجهيز لقعد الماء في نهاية شهر أبريل من كل عام، وتجتمع اللجنة المختصة بإدارة الفلج في موعد ومكان محددين، وعادة ما يكون في أول جمعة من شهر مايو من كل عام أمام حصن العوابي، وتتم أغلب عمليات القعد عن طريق المناداة (المزايدة العلنية) خاصة مياه الأوقاف، أما مياه الأفراد فبعض مُلّاكها يقعدونها بالمساومة، مبيّنًا أن عدد الأوقاف المخصّصة لصيانة فلج العوابي يبلغ 123 أثرًا (الأثر: وحدة زمنية لتقسيم ماء الفلج تقدر نظريًّا بنصف ساعة ويختلف حسابها عمليًّا من ولاية لأخرى).
ووضح الخروصي أن سعر قعد ماء الفلج يعتمد على مقدار منسوب وقوّة جريان الفلج بين الخصب والجدب، ففي العام الماضي الذي كان مرحلة جفافٍ وصل سعر الأثر إلى 400 ريال عُماني، بينما بلغ متوسط سعره هذا العام إلى 140 ريالًا عُمانيًّا كونه مرحلة خصب، بل وصل بعضه إلى 80 ريالًا عُمانيًّا فقط، بعدها يقوم المؤجّر بإعطاء وثيقة تأجير للمستأجر يتقدم بها إلى محاسب الفلج.
وأردف قائلا: تعقب عملية المزايدة العلنية مرحلة الحساب، ويتم تحديد أوقات معينة بمجلس الجامع بالولاية لمدة خمسة أيام، تستلزم حضور جميع الراغبين في السقي لتثبيت حصصهم التي استأجروها، لتصدر بعدها القوائم النهائية الجديدة للري، إذ تدور حصة كل مزارع كل أربعة أيام إلا ربع يوم أي ما يساوي تسعين ساعة، ويكون ذلك في أربعة أوقات بصفة مستمرة، وبين وقت وآخر ست ساعات، ويتم الإعلان عن لحظة انطلاق الدورة الجديدة للريّ ويباشر كل مزارع بأخذ حصته.
وتابع حديثه: هناك إقبال متزايد على الاهتمام بقعد ماء الفلج أو شراء الأثر في ولاية العوابي، ومما يدل على ذلك ارتفاع قيمة أثر الماء من 3 آلاف و500 ريال عُماني في الثمانينات إلى 8 آلاف ريال عُماني في الوقت الحالي.
من ناحيته أشار سعود بن خلف العذالي وكيل فلج “كبه” بولاية نخل إلى أن آخر قعد للفلج تم في شهر يوليو من عام 2016م، وسيتم قعد ماء الفلج لمدة خمسة وأربعين يومًا في شهر يونيو القادم.
وقال إن مياه فلج “كبه” تُقسَّم بالتناوب، فبعض المزارع تُسقى كل ثمانية أيام، وأخرى كل خمسة عشر يومًا وهو الشائع، وبعضها كل شهر، ومنها ما يُسقى كل خمسة وأربعين يومًا.
ولفت إلى أن قعد ماء الفلج يعدّ ظاهرة اجتماعية، يتجمّع خلالها أهالي المنطقة في وقت واحد لمناقشة احتياجات الفلج وما يؤثر عليه، وإيجاد الحلول المناسبة.
من جهته وضح محمد بن ماجد المهدي أحد المهتمين بقعد فلج “كبه” بولاية نخل، أن الفلج مقسّم في إطار ما يُسمّى (بالردة) ليلًا ونهارًا، وتتعدّد المصطلحات منها على سبيل المثال “ردة أذان الفجر” وتكون عند أذان الفجر، و”قروح سياح” بعد أذان الفجر بساعة، و”قروح اللبان” وتكون عند طلوع الشمس على جبل اللبان، و”ظل ثمان” ويقاس بالقدم أي ما يعادل ثمانية أقدام، وهكذا تستمر تفاصيل الردة إلى ما بعد منتصف الليل وتُسمّى بردة “سكت النوبة”.
وقال: إن المعالم التي يعتمد عليها في تدوير فلج كبه، هي جبل اللبان ومسجد الرحى حيث يوجد به مسمار على “رزة” الباب (واجهة الباب)، وعند وصول ظل الشمس عند المسمار يدخل نصف النهار ويسمى “الصنهار” ويتم تدوير الفلج لمن له ردة الصنهار.
وأضاف أن ماء الفلج يُقسَّم إلى ردتين في النهار، وردتين في الليل، وكل ردة عبارة عن ست ساعات، ويتم استخدام الساعة بالتوقيت الزوالي (وقت زوال الشمس)، وفي السابق كان يستخدم التوقيت الغروبي (وقت غروب الشمس)، ويبدأ القعد عادة من مساء يوم الجمعة، وتكون الردة الأولى من الساعة السادسة وحتى الساعة الثانية عشرة ليلًا، والردة الثانية من الساعة الثانية عشرة ليلًا /ليلة السبت/ حتى الساعة السادسة صباحًا يوم السبت، وفي النهار أيضًا هناك ردتان، الأولى من الساعة السادسة صباح يوم السبت حتى الساعة الثانية عشرة ظهر يوم السبت، والردة الثانية من الساعة الثانية عشرة ظهر يوم السبت حتى الساعة السادسة مساء يوم السبت، وهكذا حتى انتهاء القعد مدة خمسة وأربعين يومًا.
وأشار إلى أن الدخل الذي يأتي من قعد الفلج يعود لصيانته بصفة دورية، وعند نقص المبالغ المتبقية من القعد السابق يتم قعد الفلج مرة أخرى مدة خمسة وأربعين يومًا.
وبيّن أن الطريقة المتعارف عليها في قعد الفلج هي /المناداة/ بحضور جميع الأهالي أو من ينوب عنهم، حيث يتم التنسيق مع أحد المواطنين ليقوم بالدلالة أي المناداة، مشيرًا إلى أن القعد يتم في فصل الصيف لحاجة المزارع فيه إلى المياه؛ وينعكس إيجابًا على ارتفاع قيمة الردة.
ويضيف حمد بن سعيد الهطالي من سكان قرية العليا بولاية الرستاق في هذا السياق، أن فلج الميسَّر يعدّ من أقدم الأفلاج في سلطنة عُمان، إذ أٌدرِج ضمن خمسة أفلاج في سجل التراث العالمي (اليونسكو)، وشكّل إرثًا تاريخيًّا قبل ما يزيد على ألفي عام، ويمتد طوله لـ (5783) مترًا، مبيّنًا أنّ الفلج ينقسم إلى غيزين هما: غيز الفوق، وغيز التحت، (والغيز هو فرع من الفلج)، وكل منهما ينقسم إلى غيزين أيضًا بحيث يكون 4 أغياز.
ووضح أن نظام الري في الفلج يسمى محليًّا بـ (الآد)، وتبلغ مدته 24 ساعة، وللفلج 13 آدًا، وهي: بشام، والخالص، والبقل، وعلي، ومهنا، وسليمان، وحم سليمان، والسحتن، والنير الكبير، والنير الصغير، وشاذان، والجابري، والقعد الذي يعد ملك للفلج ويتم تأجيره عن طريق المزايدة العلنية (المناداة) سنويًّا، وبعائداته تتم صيانة الفلج باستمرار.
وتابع حديثه: يُحدَّد موعد المناداة، ويُعلن عن موعدها في السوق وعبر مختلف المنصات المتاحة، وقد جرت العادة أن يتم ذلك يوم الجمعة، حيث يجتمع الناس في المجلس العام (سبلة المحيضرة)، وتتم عملية المزاد العلني.
ويؤكد فهم بن مالك المعولي أحد أهالي قرية أفي بولاية وادي المعاول بمحافظة جنوب الباطنة على أن القرية ما زالت تعمل بهذه التظاهرة التقليدية (قعد ماء الفلج)، مضيفًا أن الماء في القرية ملكٌ لبعض الأهالي ووقفٌ للمساجد وللفلج، حيث يتم قعد الماء في القرية كل ١٤ يومًا بما يعادل مرّتين في الشهر.
ولسيف بن ناصر المحرزي وكيل فلج الجوبي بقرية “بعد” في ولاية المضيبي بمحافظة شمال الشرقية رأيٌ لا يبتعد عمن سبقه، حيث أشار إلى أن قعد الفلج يتم أسبوعيًّا، وهذه عادة قديمة في القرية، وهناك حالات استثنائية يتم فيها قعد ماء الفلج مثل حاجة الفلج للمال بصورة عاجلة للصيانة، فيتم قعد بادة لمدة ستة أشهر وتسمى بـ/المزيودة/، ويتم قعد ماء الفلج بطريقة (المناداة) بحضور الراغبين في استئجار الماء لريّ مزارعهم، ويكون قعد ماء الفلج في الساعة الثانية ظهر كل يوم جمعة أسبوعيًّا.
وقال خميس بن منصور الدغيشي وكيل فلج الخطمين ببركة الموز بمحافظة الداخلية: يأتي دوران فلج الخطمين بقسميه (الأعلى والأسفل) كل 9 أيام، وكل يوم يسمى (ردة)، وبه بادتان، (بادة الليل وبادة النهار)، حيث يبدأ حساب الردة اليومية من الساعة الـ 6 صباحًا إلى الساعة ذاتها في اليوم التالي، وفي كل (بادة) 24 أثرًا، وفي كل يوم 48 أثرًا (بمعدل نصف ساعة لكل أثر)، مضيفًا أن نظام القعد ثابت بنظام يسمى (الربيطة) أي مربوط سنويًّا بقيمة معينة قابلة للزيادة والنقصان حسب ظروف الفلج والاتفاق بين مختلف الأطراف.
وذكر الدكتور سالم بن حمد النبهاني وكيل فلج الحيقي بقرية تنوف بمحافظة الداخلية، أن قعد ماء الفلج سابقًا يتم في شهر ذي القعدة من كل عام هجري، وتم تغييره ليكون بالأشهر الميلادية في يوم الجمعة لثبات التقويم الميلادي، مضيفًا أنه يتم إشعار الأهالي بالإعلان عن وقت ومكان القعد قبل الموعد بأسبوعين، والمتعارف عليه هو أن يكون القعد في مجلس تنوف العام من الساعة الثانية ظهرًا حتى دخول وقت صلاة العصر.
وبيّن أن ملكيات فلج الحيقي (تنوف) تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول آثارٌ خاصة بالفلج وتقعد سنويًّا وفق المزايدة العلنية أو المناداة، والثاني آثارٌ تابعة لمزارع الوقف (أموال الوقف) ولا تقعد وإنما تُجعل لريّ هذه المزارع، والثالث آثارٌ مملوكة للأهالي وتقعد إما في يوم القعد نفسه أو في أي وقت آخر حسب التفاوض، منوّهًا أنه في فترة جائحة /كوفيد 19/ ولصعوبة الاجتماع للمزايدة، فقد تم إقرار مبلغ ثابت لكل أثر ماء، وعلى الراغب في القعد التواصل مع الوكلاء لتحديد العدد المطلوب، وتم إقرار المبلغ باحتساب مجمل الآثار وأسعارها خلال السنوات الأربع السابقة، بالمقارنة والتقريب بما يحقق مصلحة الفلج والمستفيد على حدّ سواء.
وأشار إلى أن سعر القعد يتراوح بين 35 و130 ريالًا عُمانيًّا للأثر وفق العرض والطلب، وهذه العوائد تضمن ديمومة مورد ماء الفلج من حيث الفحص المستمر لجريانه وصيانته، أما الآثار المملوكة فهي مصدر دخل لأصحابها إن كانت زائدة عن حاجتهم.
ويختتم الدكتور عبد العزيز بن هلال الخروصي وهو باحث في التاريخ الشفوي العُماني والدراسات الوثائقية الحديث بقوله إن التاريخ الشفوي عبارة عن مجموعة من الحلقات الإنسانية المتواصلة تفاعلًا وإبداعًا، والمتناسقة تاريخًا ومكانًا، ويُعد الإنسان (الراوي) العنصر الرئيس في حركة التاريخ الشفوي، إذ تتمثل قدرته على الحكاية والسرد والتذكر والحديث والدخول في التفاصيل الدقيقة التي تطلبها بعض الفروع، بالإضافة إلى قدرة الراوي على تحقيق الأصالة والاحتفاظ بها في رواياته.
وبيّن أنّ التاريخ الشفوي العُماني يهتم بالمفردات العُمانية الحيّة وتلك المفردات التي لم تعد تُستعمل أو تُتداول بين الناس بصورة واسعة فحفظها التاريخ الشفوي، ومثال ذلك المفردات المتعلقة بالأفلاج وإدارتها وطريقة توزيع حصص المياه بين مُلاّك مياه الفلج أو المستقعدين أو المستفيدين الآخرين للتعرف على المواقيف التي أوقفها الأهالي لإصلاح وصيانة الأفلاج، ودور وكلاء وعرفاء الأفلاج في إدارتها، ومعرفة التعاون القائم بين الأهالي أنفسهم في كل ما يتعلق بشؤون الفلج.
وتابع حديثه: على سبيل المثال لا الحصر، فإنّ هناك الكثير من المفردات والمفاهيم لم تعد مستخدمة في إدارة الفلج في كثير من الأفلاج العُمانية، فاختفت أو بدأت في التلاشي كلمات ومفاهيم من قبيل: الرّي عن طريق الشمس من خلال احتساب ظلها وحركتها والمسافة التي تقطعها من علامة إلى أخرى إذا كان في فترة النهار، أمّا ليلًا فإنّ الاعتماد يكون على حركة النجوم بدءًا من طلوعها أو بزوغها إلى أفولها أو باستعمال الساعة المائية وتعرف محليًّا بالطاسة أو السحلة التي يقع في قاعها ثقب صغير، وتوضع في إناء أكبر مملوء بالماء، حيث تبدأ الطاسة الصغيرة بالغرق تدريجيًّا، وعندما تصل الطاسة إلى مرحلة الغرق الكلي تُسجل أثرًا.