المجالس البلدية ومجلس عمان
بقلم : الدكتور سالم بن سلمان الشكيلي
لا يزال البعض منّا يخلط بين اختصاصات مجلس عمان بغرفتيه الدولة الشورى ، وبين اختصاصات المجالس البلدية ، دون أن يمعن النظر في القوانين المنظمة لمهامها واختصاصاتها ، إذ يرى هؤلاء بأنّ هناك نوعاً من الازدواجية في العمل ، وذهبوا إلى المناداة بإلغائها ، وحجتهم في ذلك هي تقليص النفقات العامة . وهذا القول لا يلقى تأييداً لا من الجانب الرسمي ولا من الجانب الشعبي ، ذلك أن حجة الازدواجية مبعثها في الأصل هو الجهل والخلط في المهام ، وهي بالتأكيد غير صحيحة على الإطلاق ، إذْ أن المجالس البلدية مناط بها ممارسة جانب من الإدارة المحلية على مستوى محافظات السلطنة ، وهي وإن كانت ممارسة وليدة أو حديثة عهد ، إلا أنها تسير في الاتجاه الصحيح الذي بلا شك سوف يوصلنا إلى تحقيق الطموحات والآمال والتطلعات التي يرجوها المجتمع في ظل التسارع في تطور فنون الإدارة المحلية على المستوى العالمي . وعلى هذا فإن اختصاصات المجلس البلدي لكل محافظة ينحصر من حيث النطاق الجغرافي في حدود المحافظة التي يمثلها ، أما من حيث النطاق الموضوعي فتتركز على مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية والتنموية ، فكما هو معلوم ، إنّ متطلبات المجتمعات قد ازدادت أفقياً وعمودياً ، ولم تعد السلطات المركزية قادرة على تلبيتها ، ثمّ إنّ كل مجتمع محلي له أولوياته التي قد تختلف عن المجتمعات الأخرى في الوطن نفسه ، بناء على مقاييس الرقعة الجغرافية ، والسكان، والموارد وغيرها ، ولهذا وجدت الإدارة المحلية لكي تقوم بهذا الدور باعتبار أنّ مثل هذه المجالس هي الأقرب لمعرفة الواقع المعاش ومتطلبات التنمية فيه .
ونظام الإدارة المحلية ظهر أول ما ظهر في المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر ، ونظراً للنجاح الذي سجله في هذا البلد ؛ انتقل إلى دولٍ أخرى مع اختلاف التشريعات المنظمة بحسب مساحة الدولة وكثافة سكانها ، كما تتخير الدولة النظام المناسب الذي يتلاءم مع ظروفها وتركيبتها الاجتماعية والتحديات التي تواجهها .
وبدون نظام إدارة محلية ناجزة لن تتحقق التنمية الشاملة والمتوازنة في كافة أنحاء البلاد ، لذا فإنّ الأصوات التي تنادي بإلغاء المجالس البلدية نراها غير محقة يجانبها الصواب ، أما المقولة ذات الاسطوانة المشروخة التي اعتاد البعض ترديدها ” هذه المجالس لم تفعل لنا شيئًا ” ففيها الكثير من التجني من عدة وجوه ؛ الوجه الأول : يجب أن يسبق هذه المقولة سؤال منطقي ومعقول ، وهو ؛ ماذا نريد من هذه المجالس ؟ لا شكّ أنه ليس مهمتها تقديم خدمات فردية ، وإنما خدمات مجتمعية في النطاق الجغرافي المحلي ، والوجه الثاني : أنّ عمر هذه المجالس مقارنة بالبلدان الأخرى يعتبر قصيرًا ، وعلى ذلك تحتاج هذه الممارسة (التجربة) إلى مزيد من الوقت كي تنضج وتنهض بما هو مطلوب منها ، وتنضج الأفكار وتتبلور وتتطور مع الزمن ، والوجه الثالث أنّ المجالس البلدية تعمل في ظل قانون جديد ونظام للمحافظات كذلك جديد ، يمنح كل محافظة الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري ، بالإضافة إلى ميزانية مستقلة بها بما يمكنها من تنمية نفسها بنفسها .
وترتيباً على ما سبق ذكره فإننا نجزم القول ، بأنّ المجالس البلدية أحد منجزات النهضة المتجددة ، والدعوة إلى إلغائها أو بالدعوة إلى العزوف عن الانتخابات ، هي في غير محلها وتعيدنا إلى الخلف ، وهذا ما لا يقبله عاقل رشيد ؛ فالعزوف عن الانتخابات أحد أسباب الوهن والتخلي عن الواجبات والمسؤوليات الوطنية الملقاة على عاتق الجميع ، فعمان للجميع والجميع يجب أن يكونوا لعمان .
قد نشاطر الرأي الذي يدعو إلى منح هذه المجالس صلاحيات واختصاصات أوسع مما هي عليه الآن ، وتحديد دور المحافظين وتقنينه ؛ لكي لا يستبدوا بالقرار طالما ليس هناك تجاوز للنظام الأساسي للدولة والقوانين النافذة ، وجعل الوصاية الإدارية من اختصاص وصلاحيات وزير الداخلية باعتباره يمثل السلطة المركزية . فمن المعلوم في الفقه الإداري أنّ نظام الإدارة المحلية في كافة الدول لا تلغي إشراف ووصاية السلطة المركزية على أعمال المجالس المحلية لضمان وحدة الدولة وسيادتها ، وعدم الاعتداء على حقوق وحريات الأفراد .
لذا فإنّ الجزء الأول من هذا المقال بيّن بشكل جلي عدم صحة ازدواجية العمل بين المجالس البلدية ومجلس عمان ، والجزء الثاني سوف يتناول مزيداً من الإيضاح .
أما ما يُردَّد من إهدار للمال العام فمردود عليه أيضآ ، فأعضاء مثل هذه المجالس يتمّ منحهم مكافآت بحسب النظام المتبع في كل دولة لمواجهة بعض المصاريف التي يتكبدونها ، وهم يمارسون مهام العضوية وهي بالكاد تغطي هذه المصاريف ، ولا أظن أنهم سيكوّنون ثروة من هذه المكافأة اليسيرة ، كما أنه ليس لأعضاء المجالس البلدية ذلك النفوذ حتى يتربحوا من عضويتهم ، وما شهدنا إلا بما علمنا فيهم من خير ، إنما تظل هي شائعات يتمّ تداولها دون حجة أو دليل قاطع ، والكلّ تحت سطوة القانون ورقابته . ونحن هنا لا ندافع عن أحد ولا نزكي على الله أحداً ، نعم ربما تكون بعض اختياراتنا للأعضاء على غير المستوى المأمول والعتب في مثل هذه الأحوال ليس على من تمّ اختياره ؛ ولكن العتب كل العتب على من قام بالاختبار ؛ إما بسبب العصبية وإما بسبب المال السياسي الذي لا يمكن نكران وجوده في أي انتخابات ، نحن هنا ندافع عن مُنجز تحقق على هذا الوطن وعلينا جميعاً أن ندفع به قدماً إلى الأمام تاركين السلبية والاتكالية وراء ظهورنا ولنعمل من أجل رقي وازدهار عمان وشعبها الأبيّ .
وعلى الجانب الآخر فإنّ على الجهات المختصة رصد وتحليل اتجاهات الرأي العام فيما يتعلق بتطوير دور المجالس البلدية ، بما يلبي التوجيهات السلطانية السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ، ويواكب تطلعات المواطنين للمشاركة الواسعة في صنع القرارات الوطنية وخاصة التنموية منها ، وهذا يعزز من قيم المواطنة ونسيج الوحدة الوطنية . فالوطن لا ينهض إلا بسواعد أبنائه وتفانيهم في خدمته ورفعة شأنه ، فالسلبية داء خطير إذا تمكنت من الشعوب خارت الهمم ووهنت العزائم وغاب العقل وسرى بين الناس اللامبالاة وعدم الإحساس بالمسؤولية ، ذلك إنّ السلبية هي بداية التأخر عن الركب ، ولهذا فإنّ المجتمعات التي يطغى فيها السلوك السلبي على الإيجابي هي بكل وضوح معرضة للخطر ، وليس ببعيد أن يستغل بعض المغرضين والحاقدين السلوك السلبي ، ولأوضعوا خلالَنا يبغون الفتنة ، وللأسف فينا مَن هم سمّاعون لهم .
وهنا فإننا لا نوجه اتهاماً لفرد أو جهة بعينها ، ولكن مع وجود الخير لدى الغالبية العظمى يوجد الشرّ من فئة تنقصها قيم الدين والأخلاق .
لقد أراد الله من الإنسان التفاعل الإيجابي مع البشر حتى تتحقق عمارة الكون ، فإذا أدرك الإنسان مضار الغفلة ونتائجها وعرف حقوقه وواجباته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه وغيّر ما بنفسه من مظاهر السلبية ؛ فإنّه بفعله هذا سيتغير إلى الصلاح والفلاح وسيبدّل الله حاله إلى أحسن حال .
إننا في مرحلة تحتاج فيها الأمة للتكاتف والتعاون والتآزر وأن ينحّي كلّ فرد منّا ما قد يعتريه من سلبيات وتحويلها إلى طاقات إيجابية فاعلة تساعد على النهوض بهذا البلد العزيز في كافة المجالات ، حتى تحافظ الدولة ومن خلال شعبها على دورها الحضاري التي تميزت به في العصور السابقة…
وإلى اللقاء في الجزء الثاني من هذا المقال إن شاء الله تعالى ، ودمتم في أمان المولى عز وجل .