الذّكاء الاصطناعي وتحوُّلاته في مجال الصّحافة
وهج الخليج – مسقط
يُثير ظهور الذّكاء الاصطناعي مثل تطبيقات “الشات جي بي تي” الكثير من الأسئلة حول دور هذه التطبيقات على مجال الصحافة ومصداقيتها، وتأثير التكنولوجيا على مستقبل الصحافة وتحوُّلاتها وإسهاماتها في تسريع وتحسين عملية جمع وتحليل البيانات الصحفية، والحدّ من الأخبار الزائفة.
وأكد عددٌ من الأكاديميين والصحفيين والمختصين لوكالة الأنباء العُمانية على ضرورة أن يستفيد الصحفيون والإعلاميون من تقنيات الذّكاء الاصطناعي، واستخدامها بشكل فاعل في عملهم اليومي لتحسين جودة المحتوى الإعلامي، وتحديد الاتجاهات الرئيسة في الرأي العام وتوجيه تغطية الأحداث بشكل أفضل، مُشيرين إلى أنّه من المتوقع أن يستمر تطور الذّكاء الاصطناعي في الصحافة والإعلام في المستقبل.
وأشار الأستاذ الدكتور حسني محمد نصر أستاذ الصحافة والنشر الإلكتروني بجامعة السُّلطان قابوس إلى أنّ الذّكاء الاصطناعي يمثّل تطويرًا وتهديدًا في الوقت نفسه بالنسبة للصحافة، حيث يُعدُّ فرصة لتطوير مدخلات ومخارج هذه الصناعة المهمة التي لا يمكن أن تستغني عنها البشرية، خاصة إذا استخدمت لتوليد أفكار جديدة للمعالجة الصحفية وطرق حديثة لرواية القصص الإخبارية المستقرة في المجال المهني منذ مئات السنين والتي من شأنها إعادة القراء لها، وتطوير طرق إنتاج المحتوى وطرق عرضه وتسويقه.
وأضاف أنّ التوسع في استخدام برامج الذّكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى يُمثّل تهديدًا لا يمكن إنكاره للعنصر البشري العامل في الصحافة، ويتمثل في خفض فرص العمل وفتح المجال أمام المؤسسات الإخبارية للاستغناء عن كوادرها البشرية بشكل أوسع.
ويعتبر أنّ برامج الذّكاء الاصطناعي لم تصل بعد إلى مرحلة الكمال خاصة وأن مؤسسات إعلامية وصحفية كبيرة جربت تسخيرها في إنتاج التقارير الصحفية ثم تراجعت عن هذه التجربة نتيجة وجود أخطاء كثيرة في المعلومات وهو ما يتطلب تدخل العنصر البشري لمراجعة صحة هذه التقارير وتصويب الأخطاء الكثيرة التي تظهر فيها.
ووضّح أنّه من الخطأ القول إنّ الصحافة التقليدية قد انتهت، لأن الصحافة بصفتها مهنة لم ولم تنته وما زال البشر بحاجة إلى من يجمع لهم الأخبار والمعلومات ويقدمها لهم، لكن من الأفضل أن نقول إنّ المنصة الورقية تكاد تنتهي وأنّ الصحف الورقية الآخذة في الاختفاء قد تغيب قريبًا عن المشهد الإعلامي لتحل محلها المنصات الرقمية.
وأضاف أنّ الصحافة التي تؤدي وظائف الإعلام والتفسير والتسلية والتوجيه والتسويق والتعبئة وغيرها من الوظائف، فهي مستمرة ولا يعني اختفاء الوسيط الورقي اختفاء الصحافة وإنما فقط التوقف عن استخدام هذا الوسيط والتركيز على الوسائط الجديدة التي تصل إلى الناس بسهولة، ولا يتناقض اختفاء الوسيط الورقي مع عصر صحافة البيانات والذّكاء الاصطناعي، إذ من المؤكد أن يبقي جوهر الصحافة كما هو “جمع الأخبار وعرضها على الوسائط المتاحة”.
واستبعد أنّ يحل الروبوت محل الإنسان ويُهدد وظيفة الصحفي، فالصحفي ليس فقط جامعًا للأخبار ومحررًا لها، وإنما أيضًا صانع محتوى وحارس بوابة قيمية وسياسية وأخلاقية على كل ما يجمعه من أخبار، إذ إنّه يقوم بتقييم هذه الأخبار والحكم على صلاحيتها للنشر على الناس، واضعًا في اعتباره تحقيق الصالح العام، وهذا أمر لا يمكن للروبوتات القيام به، وهناك أشياء كثيرة في العمل الصحفي لا يمكن أن تُترك للروبوتات ولا بد من تدخل الصحفي البشري في اتخاذ قرار بشأنها.
وبين أنّه يمكن للصحفيين الاستفادة من المعلومات والبيانات التي يمكن أن تقدمها لهم برامج الذّكاء الاصطناعي في الموضوعات التي يقومون بجمع المعلومات عنها أو كتابة المقالات حولها لا يعني ذلك النقل من هذه البرامج وإنما تعميق الموضوعات الصحفية التي يقوم الصحفيون بإعدادها بأنفسهم.
وأكّد أنّ هناك تأثيرات سلبية للتوسع في استخدام برامج الذّكاء الاصطناعي استخدامًا واسعًا في إعداد القصص والمقالات والتقارير الصحفية على أساس أن هذه البرامج تجمع ما جاء في تقارير وقصص مشابهة دون إسنادها إلى مصادرها وهو ما يفتح الباب واسعًا لإعادة إنتاج ما كتبه آخرون وانتحاله وهناك قضايا أخلاقية أخرى تتصل باستخدام المصادر واحترام حقوق الزمالة والالتزام بأساسيات الصحافة مثل التوازن والموضوعية والصدق.
وأكّدت الدكتورة سالي حمّود أستاذة جامعية وخبيرة في الإعلام والذّكاء الاصطناعي، على حتمية التطور، وأنّ هذا التطور مستمر ومتواصل في كل المجالات وليست في مجال الصحافة فقط خاصة مع ظهور تقنيات الذّكاء الاصطناعي فقط، ومن الممكن ظهور أدوات جديدة مستقبلًا، مشدّدة على أهمية الاستفادة من تقنيات الذّكاء الاصطناعي في الصحافة.
وبينت أنّ الذّكاء الاصطناعي لن يكون أكثر ذكاءً من الذّكاء الإنساني الذي يتسم بالمرونة والإبداع، كما أنّ الإنسان نفسه هو من أوجد الذّكاء الاصطناعي، مشيرةً إلى أنّ بعض المؤسسات الإعلامية بدأت باستخدام الروبوتات في تقديم نشرات الأخبار إلا أنّ عمل الروبوتات سيكون مرتبطًا بجانب إنساني، كما ستواجه هذه المؤسسات إشكالات عدم قدرة هذه الروبوتات على التفاعل مع البرامج الحوارية وغيرها مثل الإنسان.
وذكرت أنّ الذّكاء الاصطناعي في الصحافة يمثل تطويرًا ويمكن أن يشكل تهديدًا كذلك في حالة واحدة تتمثل في تطوير الإمكانات والمهارات والاستعانة بالموارد التي تُساعدنا على فهم كيفية استخدام هذا التطور والاستفادة منه لتطوير المجتمعات، مُشيرةً إلى أنّ الذّكاء الاصطناعي أضاف الكثير لمجال الصحافة وساعد الصحفيين على إنتاج تقارير ومواد صحفية بأقل جهد من خلال البحث عن المواد وتصميم مواد صحفية بشكل سريع وفاعل كذلك مع أهمية التأكد من صحة ما تقدمه تقنيات الذّكاء الاصطناعي من معلومات.
وفي السياق ذاته قالت الصحفية أفراح الشيخ بوكالة الأنباء البحرينية إنّ استخدام الذّكاء الاصطناعي يُسهم في تطوير العمل الصحفي حيث إنه يعمل على إدخال العديد من التحسينات عبر استخدام العديد من البرامج التي تخدم العمل الصحفي في تطوير عمله وتقنينه بما يتناسب مع تطور العصر، ويُمكّن الصحفي والإعلامي من البقاء في ساحة العمل الصحفي في ظل التنافس الكبير في تقديم المحتوى الإعلامي.
وذكرت أنّ الصحافة التقليدية تشهد عزوفًا كبيرًا من الجمهور لأسباب عِدة منها التوجه إلى الصحافة المقننة التي تتناسب مع روح العصر وعالم التقنيات والسرعة والمعلومة المقتضبة، وتلقي المعلومات المرئية بدلًا من المكتوبة وخاصة المطولة منها.وترى أنّ الذّكاء الاصطناعي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أنّ يحلّ محل الصحفي كون هذه المهنة تتطلب حسًّا إنسانيًّا وذكاءً بشريًّا، وبصمة للعمل البشري في العديد من المهن التي لا يستغنى فيها عن البشر.
وبينت أنّ الصحفي بإمكانه الاستفادة من الذّكاء الاصطناعي من خلال تناول موضوعات أعمق وأشمل تعتمد على التفسير والتحليل كالمقابلات التحليلية والاستقصائية، والموضوعات التي تعتمد على النتائج كالانتخابات، كما يوفر الذّكاء الصناعي الوقت على الصحفيين عن طريق نسخ المقابلات الصوتية والمرئية، وهناك برامج كثيرة يمكن أن يستفيد منها الصحفي.
وأفادت بأنّ الذّكاء الاصطناعي يوفر أدوات تمكّن الصحفي من إنتاج القصة الخبرية وتسهيل الوصول للمعلومة بتوفير الصور والفيديوهات بطريقة أسرع، ويمكن للصحفي تطويع تقنيات الذّكاء الاصطناعي تُمكّنه من إنتاج محتوى مرئي للقصص الخبرية مع التأكيد على أهمية مراعاة الجوانب الأخلاقية في هذا الإطار.
وقالت مدرين بنت خميس المكتومية نائب رئيس تحرير جريدة الرؤية إنّه بقدر ما فَرضتْ السرعة الهائلة في تطوُّر التقنيات والتكنولوجيا من حولنا من مخاوف اندثار بعض المهن، وتعرُّض مزاوليها لخطر الانضمام لطابور الباحثين عن عمل، وُجدت حاجة مُلحَّة لمواكبة هذا التطوُّر والحذو نحو اعتماد وتبنِّي أنماط أكثر قدرة على مُسايرة هذا الواقع الجديد.
وبينت أنَّ البرمجيات الجديدة لم تكن لتكون اليوم بدون الإنسان، بل وستظل هذه الآلات والبرمجيات بحاجة لهذا الإنسان من أجل أن تظل على قيد الحياة؛ الأمر الذي يُقلل نوعًا ما من فكرة انقراض مهن أو فقدان شاغليها لوظائفهم، حيث إنَّ الأمر اليوم مجرَّد إعادة ترتيب للأوراق، وحافز وتحدٍّ صعب جدًّا أمام الأجيال الحالية للتسلُّح بالمعارف التي يفرضها هذا الواقع متسارع الخُطى.
وذكرت أنّ واحدًا من أهم القطاعات المتشابكة مع هذا الواقع الجديد قطاع الإعلام، بأذرعه الأربعة (الصحافة والإذاعة والتليفزيون والإعلام الرقمي)، والتي باتت اليوم -وأكثر من أي وقت مضى- مُطالبةً بالتطوير والتحسين سواءً على مستوى المحتوى، أو العاملين عليها وفيها، أو الآلية التي تُقدَّم بها وما يتصل بذلك من القدرة على تحقيق الانتشار وانتزاع قصب المصداقية والمهنية والموضوعية واكتشاف وقراءة ما وراء الحدث، والتأثير والتأثر، والاستنتاج والمواجهة، والتحليل والاستقراء.
وأضافت أنّ هناك الكثير من المهارات والقدرات التي لا يقدر عليها سوى المؤمنين برسالة مهنة المشاق والمصاعب، والمنضوين تحت مظلة “السلطة الرابعة”، لصناعة رأي عام إيجابي متفاعل مع الأحداث، وناقل أمين ولسان حال صادق مع نفسه والعالم من حوله.وترى أنّ تقنيات أو ثورة الذّكاء الاصطناعي والطفرة الهائلة من حولنا، لا تدعو للخوف من المستقبل، بقدر ما تدعو لإعادة تفكير معمَّقة وشاملة في كيفية الاستفادة من هذا الثراء التقني الواعد الذي صنعته أفكار وأيادي البشر لمواكبته والبناء عليه من أجل تطوير مؤشرات الأداء في قطاع الإعلام.
وترى أنّه يجب علينا بصفتنا صحفيين وإعلاميين ألا نتوقف مجددًا عند المخاوف فقط، كما حدث حينما بدأ مصطلح “الإعلام الرقمي” يقدم نفسه على أنه البديل القادم وفرس الرهان الرابح في معادلة الانتشار والتأثير للآلة الإعلامية، وظلت وسائل الإعلام التقليدية تراوح مكانها سوى عدد قليل بدأ ينتبه متأخرًا جدًّا لحتمية التطوير.
وأفادت بأنّه مع هذا الطيف الواسع من التطور غير المسبوق لا ندري ما تُخبئه لنا الأيام القادمة من تقنيات أكثر حداثة وتطورًا، مؤكدة على قدرة الجميع -إذا ما أردنا- بصفتنا جهات معنية حكومية وخاصة، وعاملين بقطاع الإعلام، ومواطنين صحفيين كذلك، ومتلقين، وكل من له علاقة بهذا القطاع المؤثر على أنْ نستفيد من أخطاء الماضي وذلك بأن لا نتموضع في خانة المتفرجين، مشددة على أهمية أخذ زِمام المبادرة بمزيد من التأهيل والتدريب والتطوير.
وبينت ضرورة وأهمية أنّ نستفيد من هذا الحراك التقني الواعد لتطوير واقع إعلامنا المحلي والعربي والعالمي، لا أن تكون للتقنية السُّلطة علينا، قادرون على صناعة جيل جديد من الإعلام أكثر كفاءة وقدرة، وليس إعلامًا متقهقرًا متراجعًا بفعل خوارزميات نحن من صنعها لنقتل بها هذه المهنة.
وأكّدت على أنَّ الإعلام كقطاع سيظل باقيًا، والإعلاميين كمُسيِّرين لرسالة ومهنية هذا القطاع سيظلون هم دائمًا المشاعل المتقدة بالشغف، ولكن إذا أردنا البقاء فعلا وليس مُجرد شعارات، فلا مجال إلا بالعمل والتطوُّر بشكل قياسي حتى نكافئ هذا الواقع الجديد.. إنه حقًّا “صراع البقاء”.
من جانبه قال سمير النمري إعلامي وصحفي بشبكة الجزيرة الإعلامية إنّه لا يمكن القول إن الصحافة التقليدية قد انتهت بهذه الطريقة البسيطة ولكن نحن أمام تحوّل شامل في طريقة التقديم للجمهور وكذلك التعامل مع المحتوى الرقمي.
وأضاف أنّ دخول عصر صحافة البيانات والذّكاء الاصطناعي هو انطلاق لمرحلة جديدة كليًّا بحيث يمكن للحاسوب والأنظمة الرقمية أن تقوم مقام الصحفي في بعض المسائل الخاصة مثل كتابة الأخبار ونشرها بشكل آلي، ولكن ستظل اللمسة الإنسانية مفتقدة في الكتابة الصحفية في حال تمت أتمتتها بشكل كلي.
وذكر أنّ الروبوت يمكن أن يحلّ محل الإنسان في بعض الوظائف الصحفية لاسيما في كتابة الأخبار ونشرها بشكل آلي وصناعة القصص الرقمية وأعمال الجرافيك والمونتاج وجمع البيانات وتحليلها ولكن من المهم معرفة أنّ البشر لديهم إمكانات هائلة في فهم بيئتهم الإنسانية ويتمتعون بمهارات الإبداع والتعاطف والتفكير النقدي التي يفتقدها الروبوت.
وأفاد بأنّ الروبوت قد يُهدد ملايين من العاملين في المؤسسات الصحفية والإعلامية في العالم ولذلك نحن بحاجة لتوفير منظومة تدريبية وتأهيلية للصحفيين لتقديم صحافة عميقة وذات طابع إنساني تتجاوز قدرة الروبوت.
وأشار إلى أنّه يمكن للصحفي الاستفادة من أنظمة الذّكاء الاصطناعي في جمع البيانات وتحليلها حيث تفوق قدرة الروبوت الإنسان في التعامل مع البيانات الضخمة المنشورة في شبكة الانترنت وتحليلها وتنظيمها، كما يكمن الاستفادة من الذّكاء الاصطناعي في نشر التقارير والأخبار الرسمية الموثقة عبر ربطها بمصادر رسمية ووكالات إخبارية دولية موثوقة.
ووضّح أنّ تأثير الذّكاء الاصطناعي على الجوانب الأخلاقية في العمل الصحفي قد يكون كبيرًا جدًا في حال كان الصحفي غافلًا عن استذكار ميثاق العمل الصحفي، فقد يقوم بعض الصحفيين في نسب محتوى مؤلف عن طريق الذّكاء الاصطناعي لأنفسهم، وهو ما يدخلهم في خانة الانتحال والسرقة الأدبية، والتي قد تفقد الصحفي مكانته عند كشفها وتخون ثقته مع الجمهور، وبالتالي لا بدّ من تشديد الرقابة وتذكير الصحفيين بميثاق العمل الصحفي والأخلاقي تجنبًا للوقوع في تلك الأخطاء.