التيك أواي
بقلم: شريفة التوبي
كل شيء في الحياة أصبح خاضعاً لنظام (التيك أواي)، الطعام، العلاقات، الصداقات، سنوات العمر، حتى الثقافة التي نعتبرها محطة استراحة لنا، وملاذ لاسترجاع هدوء أنفسنا المتعبة من ضجيج الحياة، أصابها ما أصاب كل شيء آخر، وأصبح لدينا نوع جديد من الثقافة أو شبيهة الثقافة، والتي يتناولها القارىء كما يتناول وجبة طعام سريعة، ومع هذه الثقافة ظهر لدينا قرّاء جدد، قرّاء لا يقرأون الكتب ولا يقتربون منها، بل يكتفون من الكتاب بغلافه، ومن النص بعنوانه، ومن الكلمة بحرفها الأول، ومن المنشور بصورة الناشر، يكتفون بمتابعة سريعة لما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومجموعات (الواتساب) من رسائل يعاد تدويرها دون التأكّد من مصدرها الحقيقي أو مدى مصداقيتها، وفي لحظة تنتشر معلومات مظلّلة، وتتصدر الإشاعات قائمة المنشورات، ويخرج من هذه المواقع أشخاص غرباء عن الثقافة وأهلها، يدعّون الثقافة والفن، وتصبح لهم مسمّيات تناسب ما هم عليه، وبسرعة يصبح لهم أتباع يتابعونهم ويقلدونهم، ولأجل الشهرة الزائفة يخلعون قيمهم ويتعرّون من أخلاقهم، فتطفو الفقاعات سطح البحر وعرضه، وبسرعة وعلى طريقة (التيك أواى) يخرج المجانين والحمقى، يحتلّون الفضاءات الزرقاء، يقنعونك بجنونهم وحماقتهم، فتسود الفوضى، وتتخلخل جدران المجتمع وتتصدع، فتنهار بيوت، وتنكشف عورات، وتستباح خصوصيات، تُصدم من واقع الحال فلا تدري من المجنون ومن العاقل؟
ظاهرة أخرى ظهرت مع هذه الثقافة وهو أن تُنسب كثير من الأقوال لغير قائلها دون أن يتحرّى القارىء حقيقة القائل أو المنسوب إليه، ودون أن يكلّف نفسه عناء البحث عن حقيقة ما كُتب وما نُشر، حتى اختلط الحابل بالنابل، ومع هذه الثقافة انتشر الانتحال وكثرت السرقات الأدبية والعلمية دون حساب أو عقاب، وظهرت فئة أخرى من القرّاء وهي الأخطر على نفسها وعلى الكلمة المكتوبة، هي تلك الفئة ” الحسّاسة” التي تعتقد أن كل كلمة مكتوبة تعنيها، فتبحث عن نفسها في كل ما يُكتب، أو تلك التي تبحث عن الكاتب في نصوصه وكأن كل ما يكتبه سيرة ذاتية لا أكثر، فيؤذي الكاتب في نفسه وعائلته، وتضيع بالتالي حقيقة الكلمة في كونها أدباً وفناً، لا علاقة لها بمن يكتبها إلا لحظة كتابتها.
ومع حياة ( التيك أواى)أصبحنا لا نمنح الصباح خصوصيته وجماله بتصفّح الجريدة، كما كنّا نفعل في السابق، لقد انتهى زمن أن تكون الجريدة قد سبقتنا إلى مكاتبنا، فتمتزج رائحة الحبر في أوراقها مع رائحة القهوة، حتى تلتقي نكهة ومزاج الأسودان في سحر صباحي آخاذ، لنعيش متعة لا يمكن أن نعيشها الآن مع هواتفنا المحمولة، مهما كان جمال التقنية وفتنتها وإغراؤها.
ومهما وصل بنا الأمر من السهولة واليسر، أنّ يفتح لك العالم نوافذه وأبوابه، بلمسة واحدة، لكنك تجد نفسك غارق حد الاختناق في وادٍ جارف من معلومات شتى، ملغّمة بإعلانات هابطة بطريقة مقزّزة ومؤذية، فلا تدري أين تيمّم عينيك عنها، وأين تلوذ بعقلك منها؟ معلومات، مجّانية، متاحة، ومباحة، ما تريد منها وما لا تريد، والتي ما أن تفتح إحداها حتى تنسى نفسك، فتغرق في موج متلاطم من المعلومات والأخبار والقصص، حكايات أشبه بقطع حلوى ضارة، تتناولها بنهم، فلا تشبعك ولا تنفعك، بل تسمم عقلك وفكرك، وتصيبك بالتخمة وعسر الهضم والخمول. وبعد كل ذلك وأنت تبذل جهدك لاسترجاع أنفاسك، والخروج من تلك الفخاخ محاولاً التركيز على ما يناسب ذوقك، لن تسلم من فخ آخر، فخّ الانسياق دون إرادة حرّة منك إلى ما يتصدّر تلك الصفحات في تلك المواقع، فتجد نفسك منساق مع القطيع، حتى تصبح واحد منهم، إلٍا من لاذ بالفرار والعزلة. إنه عصر (التيك أواي) فلا عجب ولا عتب.