مسقط التاريخية تتحول إلى مزار ثقافي متكامل
وهج الخليج – العمانية
يتجه الزوار والمواطنون والمقيمون في سلطنة عُمان من مُحبي التُراث والتاريخ والفعاليات الثقافية سنويًّا إلى مدينة مسقط التاريخية، التي أصبحت مزارًا تاريخيًّا وثقافيًّا متكاملًا عبر قلاعها ومتاحفها وبيوتها الأثرية ومؤسساتها التي تضم كنوزًا من الحضارة العمانية، والأنشطة والمبادرات والمشاريع والبرامج الثقافية النوعية المتواكبة مع تطلعات المشهد الثقافي والمعبرّة عن مسؤوليتها الثقافية والمعرفية في خدمة التراث والثقافة.
يُبهر الزائر لمسقط التاريخية وموقعها الجغرافي المتميز وتكويناتها الجيولوجية بحاراتِها وبيوتِها الأثرية وأسوارها وأبوابها ومساجدها القديمة المُثيرة للاهتمام، وإطلالتها الرائعة بين الجبال والبحر مثل الميناء الخفي الذي لطالما لجأت إليه السفن المتجهة من الخليج إلى الهند وشرق أفريقيا وما بعدها حسب تعبير عالم الجغرافيا اليوناني بطليموس، كما تجذبه متاحفها التي أصبحت اليوم أحد معالمها الرئيسة وسبيلًا للحفاظ على الشواهد والمقتنيات وإبراز الأبعاد الحضارية لسلطنة عُمان والتعريف بتاريخها وحضارتها.
وتضم مسقط حاليًّا – إضافة إلى قصر العلم العامر وقلعتي الجلالي والميراني وسور مسقط التاريخي بأبوابه الأربعة “الباب الكبير، والباب الصغير، وباب المثاعيب، وبوابة ولجات” – بعض الاستحكامات الحربية والمباني الأثرية، ومن بينها بيت السيد نادر وبيت جريزة وبيت السيدة مزنة والمتحف الوطني ومتحف بيت الزبير والمتحف العماني الفرنسي ومتحف بوابة مسقط ومتحف المدرسة السعيدية التعليمي وصالة الفنون ببيت مزنة.
ويقف المتحف الوطني بموقعه المتميز في قلب مدينة مسقط التاريخية شامخًا تحت ظلال قلعتي الجلالي والميراني مقابلًا قصر العلم العامر وأسوارِها، وصرحًا علميًّا ومعرفيًّا مهمًّا يقدم قراءة للتاريخ والحضارة العُمانية وعلاقاتها التاريخية مع حضارات ودول العالم، ويحتوي بين جنباته نتاج عقود من الاكتشافات الأثرية والبحوث التاريخية المروية من منظور عُماني فريد؛ سعيًا نحو إيجاد تجربة خالدة وماثلة للعُمانيين والمقيمين والزائرين، كما تم إنشاؤه وفقًا لأفضل الممارسات والمعايير الدولية المعمول بها في المتاحف العالمية.
ويهدف المتحف الذي افتتح رسميًّا في ديسمبر 2015 إلى تحقيق رسالته التعليمية والثقافية والإنسانية، من خلال ترسيخ القيم العُمانية النبيلة وتفعيل الانتماء والارتقاء بالوعي العام لدى المواطن والمقيم والزائر، من أجل عُمان وتاريخها وتراثها وثقافتها، ومن خلال تنمية قدراتهم الإبداعية والفكرية.
ويؤكد سعادة جمال بن حسن الموسوي الأمين العام للمتحف الوطني أن “مسقط التاريخية لطالما شكلت مشهدًا يمتزج بين العراقة والحداثة؛ لتشكل لوحة جميلة تجذب السائح إليها من شتى بقاع العالم، وتزخر بوجود عدد من المؤسسات الثقافية والمتحفية التي تُعد نافذة لفهم تاريخ سلطنة عُمان بمختلف أبعاده وزواياه”.
وقال سعادته في تصريح لوكالة الأنباء العمانية: إن العمل في حفظ وصون بيت السيد نادر بن فيصل وبيت السيدة مزنة بنت نادر الجاري حاليًّا في مسقط التاريخية “مستمر بخطوات مدروسة للوصول إلى الأهداف المرسومة بالحفاظ على التراث المعماري المحلي للبيوت القديمة في مسقط التاريخية، وإعادة التأهيل لتقديم تجربة ثقافية جديدة تمثل الحياة السياسية والاجتماعية في مسقط في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي”.
وأضاف: “نهدف إلى أن تصبح هذه البيوت تجارب ثقافية مكملة لتجربة المتحف الوطني ومتحف المدرسة السعيدية للتعليم والتجارب الثقافية والمتحفية في محيط مسقط التاريخية، ومجمل هذه العناصر الثقافية ستقدم تجربة ثقافية فريدة من نوعها وتكاملية في ذات الوقت لزوار مسقط وهذا ما نسعى إليه، لكي تتحول مسقط التاريخية بالتدريج إلى مزار ثقافي متكامل يكون المتحف الوطني وجهة ونقطة انطلاقه”.
وحول ما تقدمه مدينة مسقط التاريخية من عطاء ثقافي إلى جانب عطائها التاريخي عبر المؤسسات الثقافية، يقول عبد الرزاق الربيعي نائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي: “لعل من ميزات مدينة مسقط المزج بين التراث والمعاصرة، وهذا يبدو واضحًا في طرازها المعماري ومبانيها، وحفاظها على هذا المزيج حتى أصبح علامة معمارية بارزة، ميّزَتْها عن المدن العربية التي ارتمى بعضها في أحضان الحداثة بشكل مفرط حتى أفقدها هويتها أو بقيت معزولة عن المدن العصرية، ويبدو هذا واضحًا لمن يقوم بجولة في حارات مسقط القديمة التي لم تكن تُعرف بهذا الاسم الإضافي “أي القديمة”، كما جاء في رواية (حارة العور) للسيّدة غالية آل سعيد، فقد سُميت به بعد أن نزح سكانها سنة 1970 في بداية النهضة المباركة، فسار عليها اسم مسقط القديمة”.
ويضيف: “كانت مسقط القديمة في العهد القديم ميناءً مزدهرًا تسافر منه السفن إلى بقاع العالم، ومنه أبحرت الحملة العُمانية إلى شرق أفريقيا وإلى زنجبار، وأيضًا ثمة (حارة ولجات) و(حارة المدرسة السعيدية) و(حارة التكية) و(حارة سداب) البحرية و(حارة الطويان) و(حارة العور)”. مؤكدًا أن “هذا المكان الحيوي جعل مسقط واجهة ثقافية احتلت مكانة عالية، ومرموقة بين المدن العربية”.
أما حول ما حققته المؤسسات الثقافية في مدينة مسقط التاريخية فيشير الربيعي بقوله: “كان لا بدّ من دخول الاستثمار الثقافي طرفًا في المعادلة، وهذا موجود في جميع المدن التراثية؛ تنشيطًا للسياحة، ومصدرًا للدخل يعود بالفوائد على الأفراد والمجتمع، فنشأت مؤسسات ثقافية استقطبت السيّاح الذين تعجّ بهم أسواقها التراثية، وصار من واجب هذه المؤسسات إبراز جماليات مسقط كمكان وتاريخ عريق عن طريق التعريف بكنوزها التراثية وبالتاريخ العماني كما نرى هذا في المتحف الوطني والأنشطة الثقافية المختلفة منها معارض الرسم والصور الفوتوغرافية، والمعروضات البحرية، والفنون الشعبية، والأزياء التراثية، واللقاءات الأدبية، التي تقام في بيت الزبير وبيت مزنة والمتحف الوطني والمركز الثقافي العماني الفرنسي”.
ويعد متحف بيت الزبير من المتاحف البارزة في مسقط التاريخية، ويهدف إلى التعريف المؤسس والمنهجي بالتراث العماني وتنظيم المبادرات والمشاريع والبرامج الثقافية النوعية المتواكبة مع تطلعات المشهد الثقافي، وفُتحت بوابته الخشبية المزخرفة لترحِّب بزواره في عام 1998 م، ويمثل مركزًا للثقافة والفنون والآداب في سلطنة عمان، ويقدم مجموعة كبيرة وواسعة من الخبرات الثقافية لمرتاديه من جميع الأعمار والدول.
ويعرض المتحف مجموعة من التحف العمانية الممتدة عبر القرون الماضية، وتعكس المجموعات الإثنوغرافية مهارات عالية ومتوارثة تُعرِّف بالمجتمع العُماني ماضيًا وحاضرًا، كما يضم خمسة مبانٍ مستقلة، وهي: بيت الباغ، وبيت الدلاليل، وبيت العود، وبيت النهضة، وجاليري سارة، ويدعم كل القدرات الشابة الطموحة نحو المعرفة والفنون والاستكشاف والتصميم، وتشجيعهم على عرض أعمالهم الفنية من أجل تنمية معارفهم ووعيهم بالتراث العماني والفن المعاصر.
وفيما يتعلق بمتحف المدرسة السعيدية التعليمي – الذي احتفى العام الماضي 2021 بمرور ثمانين عامًا على إنشاء المدرسة السعيدية بمسقط – يتكون من عشرِ قاعات تضم بين طياتها العديد من المنجزات التعليمية التي تحققت على أرض الوطن العزيز، لِيُعرّف الأجيال الحاضرة واللاحقة بالمراحل التي مرت بها المسيرة التعليمية عبر الحقب الزمنية المتعاقبة وصولًا إلى عصر النهضة المباركة.
والزائر لمدينة مسقط التاريخية يمر عبر بوابتها الشهيرة ليستكشف من خلال “متحف بوابة مسقط” تاريخ هذه المدينة العريقة، ويتعرف على شواهدها التاريخية وجغرافيتها، كما يتعرف على مسقط قبل عام 1970م وما كان يوجد بها من آبار وقنوات وأفلاج وينابيع المياه، ويستمتع الزائر بمعرفة الأحياء والمساجد القديمة بها، حيث يستضيف المتحف 36 لوحة تتحدث عن مسقط وآثارها ومعالمها القديمة وسوقها الشهير وتجارتها ما قبل التاريخ.
ويحتفي “المتحف العُماني الفرنسي” الذي افتتح في عام 1992م بالعلاقات العُمانية والفرنسية التي تعود إلى القرن الثامن عشر في المبنى الذي كان مقرًّا للقنصلية الفرنسية، ويتكون من ثماني قاعات، ويضم مجموعة من الوثائق التي تؤرخ العلاقات العُمانية الفرنسية، إلى جانب الأزياء التقليدية في البلدين، وتشكيلة من المجوهرات والتحف، ونماذج لبعض السفن العُمانية الفرنسية.
وأُنشِئت صالة بيت مزنة في عام 2000، وتقوم بتنظيم العديد من البرامج الثقافية والمعارض الفنية وحلقات العمل والمعارض الدولية، بالإضافة إلى المعارض المحلية الفنية والمجموعات الفنية الخاصة بالفنانين.