أولُ الغيث قطرة
بقلم:الدكتور سالم الشكيلي
تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ، في بيانه التاريخي بالتوجيه لترشيد الإنفاق في الموازنة العامة للدولة للعام الحالي ، وهو توجيه يكشف حكمة صائبة ورؤية ثاقبة ، تدرك حجم التحدّيات الاقتصادية للمرحلة القادمة ، والتي تستدعي البحث عن أي ريال ولو كان من بين أنياب الأسد ، ولكن حقيقة ما استرعى الانتباه اللافت ، تصريحات معالي الوزير المسؤول عن الشؤون المالية ، التي أعلن من خلالها العمل بالتوجيهات السامية ، مما يكشف عن أفق مسدود لدى بعض المسؤولين ، حيث يبدو أنه ليس لديهم عنصر المبادرة وخلق الأفكار والوسائل التي تتلاءم مع كل مرحلة تقوم على قاعدة لا ضرر ولا ضرار .
وفي ذات الإطار وتنفيذاً للفكر السلطاني ، فإنّ الأمر يستدعي حزمة من الإجراءات وإعادة النظر في كثير من بنود الإنفاق الحكومية ، ووقف عملية الهدر غير الضرورية لمواجهة التحديات الاقتصادية ، وخصوصاً مع الانخفاض الشديد المفاجيء لأسعار النفط العالمية ، وتفشّي وباء كورونا، وهذا ما سيلقي بحِملٍ أكبر على كاهل الدولة ، تضيف مصاعب أخرى لم تكن في الحسبان .
ولعلّ مما يمكن عمله في هذه المرحلة ، وبأسرع ما يمكن ، مراجعة كافة عقود الوحدات الحكومية ، بدءاً من عقود إيجار العقارات ، سواءً ما كان منها عبارة عن مقارّ لبعض الوحدات الإدارية أو لأغراض خدمية أخرى ، ذلك أنّ قيمة الإيجارات قد انخفضت في السوق المحلي بنسبة كبيرة ، ولا يمكن أن تبقى عقود الإيجار الحكومية على حالها ، كما تم استئجارها بأثمان مرتفعة جداً تقترب أحياناً من حدود المبالغة ، ورغم عدم الإعتماد على الشائعات التي يتم تداولها احياناً ، ولكن من باب الافتراض ليس إلا ، فإن استئجار فيلّا في إحدى الولايات مثلاً بسبعة أو ثمانية آلاف ريال عماني ، بينما إيجارها الحقيقي وفقاً للسوق المحلي لا يتجاوز ثلاثة ألاف كحد أقصى ، يدعو بدون تردد لاتخاذ ما يلزم لتخفيض قيمة العقد ، أو حتى استبدال العقار المستأجَر وفقاً لمعطيات السوق ، ويمكن أن يكون هذا الافتراض من جملة افتراضات أخرى قد تصادف الواقع وقد تتقاطع معه ، ولكن لا يجب التغاضي عنها أو بحْثُها .
والحال لا يقتصر على هذا النوع من العقود ، بل يجب أن يشمل كافة العقود الأخرى ، كعقود تقديم الخدمات وعقود التوريد وغيرها من العقود التي تمت بالإسناد المباشر أو بطرق لم تخضع للمنافسة ، وهذا الدور منوط ومعقود على دوائر التدقيق في الوحدات الحكومية التي يجب أن تتحرر من هيمنة رؤساء تلك الوحدات كما كفله القانون ، كما يقع العبء على الأجهزة الرقابية الأخرى ، على أن تكون هذه المراجعة تلقائية من هذه الأجهزة ، فلا وقت للمجاملات ولا مجال للاستثناءات ، ولا أحد فوق القانون والمساءلة ، وهذا ما أكد عليه سلطان البلاد المفدى في بيانه التاريخي ، الذي رسم خارطة طريق للحاضر وللمستقبل في كل مجالات الحياة ، وقد أمّن لها وآمن بها كل أفراد الشعب العماني ، إِذْ لم يكن جوابهم إلا السمع والطاعة والدعاء له بالثناء والعرفان..
وإذا كان هذا هو الحال مع عقود الطلب من جهة الإدارة ، فالأمر يقتضي أيضاً مراجعة شاملة لعقود العرض من قبل الإدارة ، فهناك – مثلاً – عقود تأجير الاستثمار لأراضي حكومية بأسعار مخفضة جداً ، لا تتناسب مع سعر السوق وطبيعة الاستثمار ، فهذه موارد عامة للدولة وليس للوحدات الإدارية أو للأشخاص الذين يديرونها، وبالتالي لا يجوز التساهل أو التفريط فيها ، ومثل ما يُعصر سائقو حافلات المدارس ، وتفرض عليهم أسعار وشروط ، إما القبول بها وإما الانسحاب ، فلا أقل من أن نفعل ذات الأمر مع الآخرين تحقيقاً لمبدأ المساواة والعدالة.
إنّ مراجعة أمينة وسريعة وأمينة للقانون المالي وقانون المناقصات والقوانين المرتبطة ، تمثّل أهمية واولوية قصوى ، خصوصاً مع تطلعات رؤية عمان ٢٠٤٠ ، حتى تتكامل لهذه الرؤية كافة عناصر النجاح ، وهذه العناصر لا تخلق نفسها بل نحن الذين نصنعها ، ومع ذلك فإنّ توافر عناصر النجاح لا تكفي مالم تواكبها إرادة فاعلة تعمل على توظيفها التوظيف الأمثل ، وتهيئة المناخ الملائم واللازم لها كي تؤتي ثمارها على أكمل وجه.
ربما يعتبر البعض هذه الخطوة متواضعة القدر والمردود ، ولكن وجهة النظر الأخرى تقول بوجود عشرات العقود بل مئات العقود ، وربما ألوف ، وبالتالي فهناك ملايين الريالات أصلها ألوف ، والألوف أصلها مئات ، والمئات أصلها آحاد ، وأول الغيث قطرة .
اللهم إني مجرد ناصح أمين صاحب قلم ورأي ، لا أتهم أحداً ولا أدعي رجماً بالغيب ، ومن هذا الجانب الوطني البحت ، فإنّ من حقي التنبيه على شفافية وصلاحيات الأجهزة الرقابية وأمانتها التي لا نشك فيها بالتأكيد ، عند تشكيلها ، بحيث تكون نتائج عملها صادقة وواضحة ، حتى لا نضطر إلى المطالبة بلجنة مراقبة لمراقبة أعمالها .