صفقة القرن تسقطها القدس ويشطبها الأقصى
بقلم:د. مصطفى يوسف اللداوي
في الوقت الذي ينشغل فيه الأمريكيون ومعهم الإسرائيليون في نسج خيوط صفقة القرن، وحياكة شبكتها التي يريدون بها اصطياد الفلسطينيين جميعاً، ومعهم الأمة العربية والإسلامية، التي يبدو أن الكثير من القادة والملوك والرؤساء قد وقعوا بإرادتهم في شراكها، وآمنوا بها وسلموا لها، وبدأوا العمل بموجبها والالتزام بخطوطها، من خلال أوهامٍ مزعومةٍ، وسرابٍ كاذبٍ بمستقبلٍ واعدٍ بكيانٍ مسخٍ مرقطٍ مقطع الأوصال، معدوم السيادة والسلطة، ومحرومٍ من الوحدة والاستقلالية، ولا حق لأصحابه بالعودة إليه والإقامة فيه، مقابل اعترافٍ يقدمه العرب، وأمانٍ يضمنونه، وسلامٍ يحققونه، وتطبيعٍ يفرضونه، واندماجٍ يتطلعون إليه، وتكاملٍ يعملون عليه، وتعاونٍ ينشدونه، وشراكةٍ يخططون لها ويأملون فيها، وغاية آمالهم من مشروعهم أن تستقر أنظمتهم، ويستمر سلطانهم، ويحمي الكيان الصهيوني وجودهم ويمنع سقوطهم.
جاء جبابرةٌ فلسطينيون ثلاثة، حملوا من الاسم صفته وفعله، ومن العائلة الواحدة إيمانها ويقينها، وترابطها وتلاحمها، وعشقها للمقاومة وحبها للوطن، وتضحيتها من أجل القدس والأقصى، من أم الفحم في قلب الوطن قدموا على عجل، وعلى أكتافهم بنادق قديمة، تحملها سواعد فتية قادرة، تحمل العزم والإيمان، ويحذوها العزم واليقين، وتدفعها الغيرة والحمية، والغضب والثورة، ولعلهم قد تعلموا من ابن بلدتهم ورئيس بلديتها الأسبق، وزعيم الحركة الإسلامية الأول الشيخ رائد صلاح أبجديات حب الأقصى والدفاع عن القدس، وهو المتيم بالقدس والمسكون بالأقصى، والموسوم بين العرب والفلسطينيين جميعاً بـــــ”شيخ الأقصى”.
الأبطال الثلاثة كانوا يدركون شهادتهم ويعرفون آخرتهم، ويتوقعون مصيرهم، وقد أعدوا لآخرتهم عدتهم، وودعوا بكلماتٍ قليلةٍ أحبتهم، وسطروا على صفحاتهم وصيتهم، وكانوا يعلمون أنهم سيخوضون معركةً غير متكافئة، وقتالاً غير متوازنٍ، ولكنهم مضوا على يقين، وواصلوا بكل ثقةٍ وثبات، ليقولوا للإسرائيليين ومن والاهم، أننا حماة الأقصى وحراسه، ندافع عنه ونقاتل من أجله، ونفديه بالأرواح والمهج ولا نبالي، ولن نسمح ما بقينا لعدوٍ أن يغتصبه، ولا لرجسٍ أن يدنسه، ولا لمستوطنين أن يقتحموه، أو لغلاة المتدينين أن يقتسموه، ولا للمتشددين المتطرفين أن يخربوه، وأننا فيه نرابط وعنه ندافع، وفي أروقته نعتكف وفي صحنه نصلي، ولكننا عند النداء نلبي، وفي ساعة العسرة نتقدم، ووقت الجد نبدو رجالاً ونزهو أبطالاً، ليبقى الأقصى حراً عزيزاً، والمسرى طاهراً شريفاً، لئلا يظن العدو أن حماته قد ماتوا، وأن حراسه قد خاروا، وأهله عنه قد تخلوا.
ثلاثة شبان في مقتبل العمر، والمستقبل يزهو أمامهم، والأحلام تتراءى أمام عيونهم، وصور أطفالهم لا تغيب عن ناظريهم، يقدمون بكل جرأةٍ على مهاجمة جنود الاحتلال الذين شاركوا قبل أيامٍ قليلةٍ في حماية عاهرةٍ صهيونيةٍ تعرت من كل ثيابها، وأقدمت بكل وقاحةٍ على تدنيس الحرم، وجابت في رحابه وتنقلت في جنباته وجنود العدو يحرسونها، وعتاة المستوطنين وأشدهم تديناً يرمقونها بعيونهم، ويتطلعون إليها بعيون الرضا وهي تنتهك حرمة المسجد الأقصى، وتنزع أمام حراسه العرب ثيابها، في تحدٍ سافرٍ، ووقاحةٍ مبتذلةٍ، ووضاعةٍ عرفوا بها، وعهرٍ اشتهروا عبر التاريخ به.
العدو وإن قتلهم وتكاثر عليهم بجنوده وأنهى معركتهم، إلا أنه غاضبٌ ومنفعلٌ، ومصدومٌ ومهزومٌ، لهول الحدث ورعب المفاجأة، ويكاد لا يصدق ما أصاب جنوده وحل بحراسه، في الوقت الذي كان يخطط فيه لتوسيع مدينة القدس وتهويدها، وتقسيم المسجد الأقصى مكانياً وزمانياً، ليكون له فيه وجودٌ في المكان وحيزٌ من الزمان، ولكن المعركة أيقظته من سكرته، وأعادته إلى وعيه، وأوقفته عن غيه.
ولشدة غضبه فقد أصدر رئيس حكومة كيانه أوامره لجنوده بمداهمة بيوت عزاء منفذي عملية الاشتباك البطولية، وتفكيك السرادقات، وتفريق المواطنين، ومنعهم من الاحتفاء بالعملية وتكريم أبطالها، أو تقديم العزاء لذوي شهدائها، وقامت شرطته بنزع الصور المعلقة وتشويه الجداريات وتمزيق الملصقات وإنزال الأعلام، ومعاقبة المتعاطفين والمؤيدين، وملاحقة النشطاء والمحرضين.
ومن قبل قام جنوده باقتحام بوابات المسجد وتكسيرها، وعبثوا في محتوياته، وأخرجوا جميع من كانوا فيه من المصلين والمعتكفين والمرابطين والعاملين والحراس وعمال النظافة والصيانة وغيرهم، واعتقلوا بعضهم، وأصدر رئيس حكومة كيانهم أمراً نفذه الجيش والجهات العسكرية بإغلاق جميع البوابات المؤدية إليه، ومنع رفع الأذان وأداء صلاة الجمعة فيه، لتكون هذه أول مرةٍ يتوقف فيها الأذان منذ قرابة خمسين عاماً، بعد أن أحرق مستوطنٌ أسترالي متشدد المسجد القبلي ومنبر صلاح الدين الأيوبي في العام 1969.
ورغم ذلك فقد تداعى الفلسطينيون من كل مكانٍ للصلاة في محيط الحرم وحيث يستطيعون، في تحدي صارخٍ لإرادتهم، وكسرٍ متعمدٍ لقرارهم، وتصدي عنيدٍ لسياستهم، ليعلموا أن نداء صلاة الجمعة نداءٌ ربانيٌ خالدٌ، وهو نداءٌ كان وسيبقى إلى يوم القيامة، فيه يتداعى الذين آمنوا بأمر القرآن إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، ليسعوا إلى ذكر الله، ويتخلوا عن البيع والشراء وعن كل ما يلهي عن الصلاة استجابةً لأمر الله الخالد.
عملية القدس ليست عمليةً عادية، ولا يمكن أن تمر على العدو وأوليائه بسهولةٍ ويسرٍ، أو يقف عندها قليلاً ثم ينساها ويواصل مسيرته ويتابع مخططاته، كغيرها من العمليات التي سبقت، التي نعظمها ونجل أبطالها، ونعتز بها ونفخر، ولا نقلل من شأنها ولا نستخف بآثارها.
لكن عملية الجبارين اليوم مختلفة، ذلك أنها تحمل رسائل كثيرة، وتطوي تحت جناحيها أهدافاً عديدة، فقد جاءت في وقتٍ يسود فيه الحديث عن صفقة القرن التي ستطوي القدس والأقصى، وستنسي الفلسطينيين وساوس الوطن وأحلام العودة، وستمزق الوطن وتشتت الشعب، وترسم حدوداً جديدة وتفرض مفاهيم مختلفة، فوجهت في توقيتها ومكانها صفعةً قويةً لكل الحالمين بسلامٍ على حساب الوطن وعلى حقوق الشعب وأجياله، وكأنها تقول لمن يحلم ويخطط، ويتخاذل ويتآمر، أننا هنا جندٌ حاضرون وحراسٌ دائمون وحماةٌ باقون، نحمل البندقية ويدنا على الزناد، ونقبض على الحق ونمتلك القرار، ونقف لعدونا بالمرصاد نصده وبالقوة نمنعه، ونقاومه وبالسلاح نقاتله.
بيروت في 16/7/2017