المقالات

عكّر الماء لكي تصطاد، الجيل الخامس من الحروب لتفتيت الأوطان

بقلم : أحمد بن ناصر المعمري

إن سياج الأوطان هو الأمان، الذي يحافظ على كيانها، ويبقيها آمنة مستقرة محفوظة الحمى، مصونة الجانب، ذات سيادة تواجه الضغوط التي تفرض عليها لتطويعها أو تقويضها، سواء بالضغوط الخارجية، أو بالزعزعة الداخلية، ومثل الأمان كالمناعة في جسم الإنسان، إن هو فقدها فلن تطيب له لذة عيش قط ما دام يتقلب في الأمراض والأوجاع، لإن العليل يجد حتى في الماء مرورة تنغص عليه شربه، فكيف بما دونه من الأمور, وقد ذكر المتنبي ذلك وأحسن:
وَمَن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ** يَجِد مُرّاً بِهِ الماءَ الزُلالا

إن أكبر مقوض لأمان الأوطان اليوم هو الجيل الجديد من الحروب المسماة بالجيل الخامس، الذي يعتمد كليا على حرب المعلومات، وغسل الأدمغة، عبر إعادة هندسة المجتمعات، وقد عرّف الكاتب الأمريكي دانيال أبوت هذا الجيل من الحروب بأنها: )حرب المعلومات والإدراك، حيث تُشن بشكل أساسي من خلال أساليب غير حركية، مثل الهندسة الاجتماعية والتضليل والهجمات السيبرانية ووالتكنولوجيا المتقدمة كالذكاء الاصطناعي، والهدف ليس تدمير الخصم عسكرياً، بل التلاعب بتصوراته وقراراته لدرجة تجعله يهزم نفسه بنفسه أو يفقد القدرة على المقاومة(. فمن يملك اليوم أكبر تدفق من المعلومات يمكنه السيطرة على توجه الجماهير، وهندسة آرائها بما يتوافق مع مشاريعه، ومنطلق ذلك أن الجماهير مولعة بمشاركة الأخبار المغلوطة والمضللة أكثر من تلك الصحيحة كما ورد في دراسة من جامعة ستانفورد: )فإن 64٪ من الأخبار المُضلِّلة التي تُنشَر عبر الإنترنت تجري مشاركتها من دون تحقُّق(، وتؤكد ذلك دراسة أخرى لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: )إن الأخبار الخاطئة تنتشر أسرع من الأخبار الحقيقية؛ إذ يُعاد نشرها أكثر من الأخبار الصحيحة بنسبة 70٪( وهذه نسبة تدعو للقلق في أي مجتمع لا يملك الحس الأمني العالي. وتكمن المعضلة في تعقيد صد هذه الهجمات لأنها تأتي بأحيان كثيرة من مهاجمين مجهولي الأسماء، وقد يستخدمون أعلاما وصورا كاذبة تدل على انتمائهم لهذا البلد أو ذاك، إما لزعزعته داخليا أو إفساد علاقته بدولة ما، أو تشويه صورته بشكل عام، ويمكن تضخيم أي حدث بسهولة بالغة عبر آلاف الحسابات التي تجعل الناس تظن أنه لا شك في صحة تلك الأخبار لكثرة متناقليها، فيقع ضحية القطيع، الذي أضيف لقوته قطيع آخر إلكترونيا ليقوي به شوكته، وفي ذلك يقول أبوت: “في حرب الجيل الخامس، قد لا يعرف الضحية أبداً أنه يتعرض لهجوم، أو من هو المهاجم!”، وللوقوف ضد هذه الهجمات يتطلب وعيا شعبيا عاليا، وتحصينا ممنهجا قويا تجعله يتنبه لما يراد منه، فإن هدف هذه الحرب هو توجيه الناس لمآرب من يقف خلفهم، ولتغيير سياسات الدول المستهدفة بما يخدم مصالحهم هم، وحين تيقن الدولة أنها تدفع دفعا لحالة عدم الاستقرار، سيجعلها ذلك ضعيفة هشة يملى عليها في إرادتها، وتوقع على أمور لا تتبناها.

إن الدعوة للتجمهر من خلال بعض الفارين الذين لم تحمد سيرهم ولا أخلاقهم، ما هي إلا دعوة للاصطياد في الماء العكر، وتعزيزا لما ذكرناه بالأعلى، وستكون سابقة فضيعة أن يستطيع سقطة المتاع من بلد أجنبي أن يقودوا شباب بلد كعمان العظيمة الحبيبة، ومن المستحيل بمكان على ثلة لا تتعدى الاثنين والثلاثة أن تقوم بهذا الأمر دون ظهر يسندهم، وإلا أي شيء يمكن أن يكسب الفرد من اتباع من لا يصلح لولده حتى أن يخطو خطاه، والله عز وجل يقول: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ”، فحالهم كحال إبليس الذي كان يوعد ويمني آدم إنه إن أكل من الشجرة المحرمة فسيخلد أو يكون ذا ملك عظيم، “وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ”، حسدا منه، فما كان جزاء آدم حين أطاعه إلا أن رجع صفرا مما مناه به، بل وأنزل من الجنة التي كرم بها “فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ”، وكذلك يريدون أن يفعلون.

لم يكن الله ليقدم الأمان على سائر النعم إلا لتبيان ترتيبه وفضله عليها، فقد قال الله تعالى منكرا على أهل مكة صنيعهم الذي بسببه فقدوا الأمن “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”، وهو أول ما دعا به سيدنا إبراهيم من النعم تأكيدا لتقديمها عن غيرها “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ” وذكر الله إن أول نعمة يرتجيها عباده الصالحون بعد صبرهم، والتي سيجازيهم بها “وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا”.

على العمانيين أن يقيموا ثغور بلادهم ضد هذه الهجمات المكثفة، ناشرين بينهم الوعي الأمني والمعرفة، فإن جندي السطور ليس بأقل أهمية من جندي الثغور، فكل منهم يقيم لبنة من لبنات هذا البناء الشامخ حتى لا يؤتى من قبله الوطن، ويقول الغزالي محذرا: “ليس بالضرورة أن تكون عميلاً لتخدم أعداء الوطن… يكفي أن تكون جاهلاً”، والجهل هنا ليس جهل القراءة والكتابة بل جهل ما يحاك لك من خلفك، لكي تكون الدمية التي يستفتحون بها مطامعهم، كما رأينا في البلاد العربية، بداية من إسقاط صدام حين وعد العراقيون بالديمقراطية والخيرات، فلم يجنوا جراء ذلك إلا الشوك حين وضع المحتل ثراوتهم بين أيديه، وكما يفعل في شمال سوريا وغيرها من البلاد، ولو وضعنا أيدينا على خريطة الشرق الاوسط لوجدنا أن الهجمات هذه مخصوصة فقط لمن لا يسير في فلك الأجندة الصهيونية، مسلطة على من يقف مع القضية الفسطينية، ومن يريد لم شمل العرب، والمحافظة على قيمهم وأعرافهم وشكيمتهم، ونبذ الفرقة والتقاتل بينهم، وقد قال الله تعالى: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”، وقد قال الشاعر:
مَتى يَبلُغُ البُنيانُ يَوماً تَمامَهُ ** إِذا كُنتَ تَبنيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى