اتفاق غزة نصر وعزة لأهل غزة
بقلم: جمال بن ماجد الكندي
بعد خمسة عشر شهرًا تقريبًا من بدء معركة طوفان الأقصى، وما تبعها من أمور سياسية وعسكرية من أهمها فتح جبهات مساندة لغزة حاربت العدو الإسرائيلي، فغيرت خارطة المواجهة المسلحة التقليدية بين الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، إلى خارطة جديدة تُسمى جبهات المساندة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، والتي تستهدف الكيان الصهيوني من قلب بلدانها إلى عمق أراضي فلسطين المحتلة.
لبنان واليمن والعراق كانت مصدر قلق وإزعاج كبير لإسرائيل وحلفائها في المنطقة ، خاصة الجبهة اللبنانية واليمنية، فالحرب مع إسرائيل تجاوزت الجغرافيا الفلسطينية بدخول هذه الدول دعمًا للمقاومة الفلسطينية في حربها ضد الكيان الصهيوني، فخلقت هذه الجبهات المساندة أزمة سياسية وعسكرية واقتصادية في الداخل الإسرائيلي، طبعاً مع المقاومة الباسلة في غزة التي حيرت كبار القادة العسكريين في إسرائيل وأمريكا وغيرها، بسبب صمودها وقتالها الأسطوري طوال خمسة عشر شهرًا من عمر معركة طوفان الأقصى وعدم رفعها الراية البيضاء. وهذا الأمر ليس بالغريب عليها، فهي تقاتل من أجل الحرية وكرامة الوطن.
هذه العوامل الداخلية والخارجية أجبرت الإسرائيلي، بعد مماطلة وخداع طوال شهور الحرب، على إعلان قبولها الهزيمة وإبرام اتفاق غزة، وإنهاء الحرب. لكيلا يكون كلامنا مرسلًا من غير أدلة من داخل الكيان الصهيوني، سنطرح سؤالين ونجيب عليهما، ومن خلال هذه الإجابات سنحلل: هل اتفاق غزة هو نصر وعزة لأهل غزة، وكافة العرب
والمسلمين، أم هو اتفاق الاستسلام والخضوع والخنوع لشروط المحتل الإسرائيلي بعد كل التضحيات التي بذلها الجانب الفلسطيني في هذه الحرب؟
قبل السؤالين، نطرح بنود الاتفاق التي جاءت في ثلاث مراحل، مدة كل مرحلة (42) يومًا:
المرحلة الأولى (42 يومًا):
وقف العمليات العسكرية المتبادلة مؤقتًا: يتفق الطرفان على وقف مؤقت للعمليات العسكرية، مع انسحاب القوات الإسرائيلية شرقًا بعيدًا عن المناطق المكتظة بالسكان إلى مناطق بمحاذاة الحدود في جميع مناطق قطاع غزة، بما في ذلك وادي غزة.
تعليق النشاط الجوي العسكري: تلتزم إسرائيل بوقف الطيران العسكري والاستطلاعي في سماء قطاع غزة لمدة 10 ساعات يوميًا، وتزيد إلى 12 ساعة في أيام إطلاق سراح المحتجزين والأسرى.
تبادل الأسرى والمحتجزين: تقوم حركة حماس بإطلاق سراح 33 محتجزًا إسرائيليًا، يشمل ذلك النساء والأطفال وكبار السن والمرضى، مقابل إفراج إسرائيل عن 1,800 أسير فلسطيني، بينهم 250 محكومًا بالسجن المؤبد، ونحو 1,000 من المعتقلين بعد 7 أكتوبر 2023.
عودة النازحين: تبدأ عودة النازحين إلى مناطق سكناهم، مع ضمان حرية الحركة للسكان في جميع مناطق القطاع، ودخول المساعدات الإنسانية دون معوقات.
فتح معبر رفح: بعد 7 أيام من بدء تنفيذ المرحلة الأولى، يُفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية والوقود، بمعدل 600 شاحنة يوميًا، منها 50 شاحنة وقود، و300 شاحنة تتوجه إلى شمال القطاع.
المرحلة الثانية (42 يومًا):
إعلان الهدوء المستدام: يُعلن عن وقف دائم للعمليات العسكرية والعدائية، مع استئناف عمليات تبادل المحتجزين والأسرى، بما في ذلك جميع الرجال الإسرائيليين الأحياء المتبقين، مقابل عدد يتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
انسحاب القوات الإسرائيلية: تنسحب القوات الإسرائيلية بالكامل خارج قطاع غزة، مع تفكيك المنشآت العسكرية.
المرحلة الثالثة (42 يومًا):
تبادل الجثامين والرفات: يتبادل الطرفان جثامين ورفات الموتى بعد الوصول إليهم والتعرف عليهم.
إعادة إعمار قطاع غزة: تبدأ خطة إعادة إعمار شاملة للمنازل والمنشآت المدنية والبنية التحتية التي دُمرت نتيجة الحرب، وتعويض المتضررين، بإشراف دول ومنظمات، منها مصر وقطر والأمم المتحدة.
إنهاء الحصار: يُنهى الحصار الكامل عن قطاع غزة، مع فتح جميع المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع.
ملاحظة هذا الاتفاق هو تقريبًا نفس الاتفاق الذي عُرض على الكيان الصهيوني من قبل أمريكا في شهر مايو من العام الماضي. وليكون ملزمًا، صُدِّق عليه من قبل مجلس الأمن بموافقة أمريكا نفسها، ولكن كانت المماطلة من قبل نتنياهو لأهداف أراد تحقيقها في فترة رئاسة (ترامب). المفاجأة التي لا يزال نتنياهو تحت صدمتها هي طلب وإصرار الرئيس الأمريكي المنتخب (ترامب) نفسه على توقيع الصفقة بهذه الشروط التي كانت مرفوضة لدى الجانب الإسرائيلي الملاحظة الثانية أن الانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلي سيكون في المرحلة الثانية وليست الأخيرة وخلال هذه المرحلة يفكك كل المنشآت العسكرية التي بناها في محور “نتساريم” ودوار الكويت لسهولة عودة النازحين إلى ديارهم، وهذا الأمر كان قبل ذلك مرفوضا من قبل “نتيانيهو” وهي خسارة عسكرية كبيرة للجيش الإسرائيلي حسب التوصيف العسكري.
بعد ما استعرضنا بنود الاتفاق والملاحظات عليها نطرح السؤلين الذين قلنا عنهما بأن الإجابة عليهما هما نصر غزة، ففي السؤال الأول نسأل هل اتفاق غزة هو نصر وعزة لأهل غزة؟ الإجابة نجدها في تصريحات القادة السياسيين والعسكريين والصحفيين داخل الكيان الصهيوني نفسه.
إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي): أعلن أنه سيستقيل من الحكومة إذا تم إقرار اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس، واصفًا الاتفاق بأنه “غير مسؤول”.
بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية): دعا إلى استمرار العمليات العسكرية ضد حماس، مشددًا على ضرورة تحقيق أهداف إسرائيل الأمنية.
معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي: “اتفاق وقف إطلاق النار يعني أن إسرائيل لم تدمر حماس لأنها لم تكن قادرة على ذلك.”
جريدة يديعوت أحرونوت: “نتنياهو فشل سياسيًا، والجيش ورئيس أركانه فشلا عسكريًا بعد 15 شهرًا من الحرب.”
الكاتب والمحلل السياسي الإسرائيلي ألون مزراحي: “حماس أسطورة لأجيال قادمة، ولقد انتصرت علينا بل على كل الغرب وصمدت في المواجهة.”
صاحب خطة الجنرالات، “غيورا آيلاند”: “الحرب على غزة فشل كبير لأنها لم تحقق أهدافها، وكان من الممكن التوصل لنفس الصفقة في مايو قبل أن يُقتل 120 جنديًا إسرائيليًا.”
صحيفة أرئيل كاهانا: “في الواقع يمكن للمرء أن ينتقد الجيش الإسرائيلي بسبب حقيقة مفادها أن حماس لا تزال قوية بعد 15 شهرًا من السابع من أكتوبر.”
هناك عبارة متداولة في الكيان الصهيوني تذكر كلام نتنياهو في عام 2023، حيث قال: “لن يكون وجود لحماس في غزة”، وفي عام 2025 يقول: “نحن ننتظر رد حماس على مقترح وقف إطلاق النار.”
عوديد عليم، مسؤول شعبة العمليات الأسبق في الموساد الإسرائيلي: “يجب أن نعترف بصدق أننا لم نحقق الهدف المركزي من الحرب وهو القضاء على القدرات العسكرية لحماس.”
ميخا كوبي، المسؤول السابق في جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”: عبّر عن موقفه المتشدد تجاه اتفاق وقف إطلاق النار، حيث وصف الصفقة بأنها “ليست المثالية بالنسبة لإسرائيل”، بل اعتبرها “من بين أسوأ الصفقات التي عقدتها في تاريخها على الإطلاق.”
الباحث الإسرائيلي “مايكل ميلشتاين ” عبر إذاعة 103 أف أم العبرية يقول لا جدوى من إثارة مسالة اليوم التالي هو هنا حماس، حماس هي التي تسيطر وهنا تبدأ المعضلات الكبرى، وقال أيضا سنرى في غزة الكثير من الفرح. ونقول اليوم الأول من الحرب هو يوم حماس بمعركة طوفان الأقصى واليوم الأول بعد الحرب هو يوم فرحة حماس وأهل غزة بالنصر الكبير وهي حقيقة نشاهدها في عيون الغزاويين.
هذه بعض آراء السياسيين والعسكريين السابقين والحاليين في الكيان الصهيوني عن اتفاق غزة.
السؤال الثاني هو:
هل حقق رئيس الوزراء الإسرائيلي أهدافه التي أعلن عنها قبل معركة غزة؟ فقد أعلن ثلاثة أهداف رئيسية:
إعادة الرهائن المحتجزين في غزة.
القضاء على حركة حماس وتفكيك قدراتها العسكرية.
ضمان عدم تشكيل قطاع غزة تهديدًا أمنيًا لإسرائيل في المستقبل.
حتى تاريخ 19 يناير 2025، تشير التقارير إلى أن هذه الأهداف لم تتحقق بالكامل:
إعادة الرهائن: على الرغم من الجهود المستمرة، لم تتم إعادة جميع الرهائن المحتجزين في غزة. المفاوضات لا تزال جارية، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل يضمن عودتهم.
القضاء على حركة حماس: لم يتم القضاء الكامل على حركة حماس أو تفكيك بنيتها التحتية. لا تزال الحركة تحتفظ بقدراتها العسكرية وتواصل نشاطها في القطاع.
ضمان أمن إسرائيل: لم يتم تحقيق ضمانات دائمة تمنع قطاع غزة من تشكيل تهديد أمني لإسرائيل. التوترات والمواجهات المتقطعة لا تزال مستمرة، مما يشير إلى أن التهديد الأمني لم يُزل بالكامل.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن الأهداف التي أعلن عنها نتنياهو قبل معركة غزة لم تتحقق بشكل كامل حتى الآن. لذلك، أُجبر نتنياهو، بضغط داخلي وخارجي، على قبول وقف إطلاق النار، خاصة بعد خيبة أمله في صديقه العزيز (ترامب).
من خلال السؤالين المطروحين في المقال، وبالأخص السؤال الأول، الذي استندنا في الإجابة عليه إلى تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، سواء الحاليين أو السابقين، نستخلص حقيقة واضحة ودقيقة: إن ما تعرضت له غزة من دمار وقتل وتنكيل لشعبها الصامد، قابله صبر أهلها وبسالة مقاومتها. وفي النهاية، تجلى النصر في هذا الاتفاق الذي جاء مطابقًا للشروط الفلسطينية، وهو اعتراف ضمني من الصهاينة أنفسهم بأن غزة انتصرت.
نلاحظ من خلال ما سردناه في السؤال الأول والأجوبة التي قدمها السياسيون والعسكريون أن اتفاق غزة جاء وفق الشروط الفلسطينية، بل في بعض فقراته كان الجانب الإسرائيلي ينتظر رد حماس للموافقة، وكانت الحركة تدقق على كل فقرة من فقراته، وتبدي رأيها ولا توافق بمجرد الطرح.
وهذا يدل على تمسكها بقواعدها الثابتة في مسألة وقف إطلاق النار. كما أن تفاصيل الاتفاق تدل على قبول الشروط الفلسطينية، ومن أهمها الانسحاب الكامل من غزة.
كانت هناك أوراق ضغط على الكيان الصهيوني جعلت الاتفاق يظهر بهذا الشكل المتوافق مع الإرادة الفلسطينية في غزة، منها ما هو في يد حماس ومؤثر في الداخل الإسرائيلي، وهي ورقة الأسرى الذين لم يستطع الجيش الإسرائيلي ولا حلفاؤه الوصول إليهم وتحريرهم. وهو ما أذهل العالم، فبعد 15 شهرًا من القتال داخل غزة، ذات الجغرافيا المنبسطة والصغيرة، لم يستطع الجيش الإسرائيلي تحرير جميع الأسرى. ولم يتمكن، بكل تقنياته التجسسية وبمساعدة حلفائه الأمريكيين والبريطانيين وغيرهم، من معرفة مكان الأسرى، وهذه كانت أكبر انتكاسة لهذا العدو، وهي من أهم الأوراق الضاغطة عليه لقبول الاتفاق. ويُحسب لحماس والقوى الفلسطينية الأخرى ذكاء إدارتهم لهذا الملف واستغلاله إعلاميًا.
الورقة الأخرى التي كانت ضاغطة على العدو الصهيوني هي جبهة اليمن التي لم تتوقف عن استهداف العمق الإسرائيلي. فبعد توقف جبهة لبنان، والتي لها أسبابها المقدرة في قبول وقف إطلاق النار مع الكيان الصهيوني، زادت جبهة اليمن من استهدافها لإسرائيل، وكأنها كانت عملية تسلُّم المهام من جبهة لبنان بزيادة عدد الصواريخ والطائرات المسيرة ضد الكيان الصهيوني. وهذه كانت المفاجأة التي لم يتوقعها الجيش الإسرائيلي.
لا ننسى كذلك تدخل “ترامب” لإرغام نتنياهو على قبول الصفقة ذاتها التي اقترحها الرئيس الأمريكي “بايدن”. وهذا يعني توافق الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مسألة وقف إطلاق النار بأي وسيلة، حتى لو كانت بشروط لا تعجب الإسرائيليين، وكما ذكرنا في جواب السؤال الأول، هي صفعة وجهها “ترامب” لصديقه نتنياهو. والأيام ستُظهر أسباب ذلك، والذي ندركه جيدًا أن الرئيس الأمريكي القادم “ترامب” لا يريد حروبًا في المنطقة. وقد ذكر سابقًا أنه يريد حلًا لمسألة غزة قبل استلامه الحكم في أمريكا، وهذا ما حصل.
في جواب السؤال الثاني، ندرك بالملاحظة أن أهداف نتنياهو لم تتحقق في غزة. وحتى اليوم التالي لوقف إطلاق النار، الذي أراده نتنياهو أن يكون نهايةً لحماس، أصبح من الماضي، وحماس باقية ما بقيت غزة العزة.
اتفاق غزة يمثل نصراً عظيماً وعزةً راسخة لأهلها. إذ أثبت صمودهم أن إرادتهم قادرة على كسر الحصار وإجبار المحتل على التراجع. وهذا الاتفاق يعكس قوة المقاومة وصوت الشعب الذي لا ينكسر، ويؤكد أن الحقوق تُنتزع بالصمود والتضحيات. لتظل غزة رمزًا للكرامة والنضال. فمبارك لكِ يا غزة هذا النصر المؤزر الذي كان ثمنه غاليًا من دماء أهلك الشرفاء. فهم شهداء عند ربهم، وما تم تدميره سوف يُبنى بسواعد الغزاويين وشرفاء هذه الأمة.