ثلاثة أعلام في دولة
بقلم: جمال بن ماجد الكندي
أحدث الربيع العربي عام 2011م بيئة اجتماعية وسياسية وعسكرية مختلفة تمامًا في مكونات الشارع العربي لم تكن معهودة قبل هذا التاريخ، فهي لأول مرة أوجدت كيانات سياسية وعسكرية خارج نطاق الدولة المركزية المتعارف عليها بالدولة المسيطرة على كامل ترابها الوطني. كان هذا الربيع في شكله العام مطلبًا شعبيا لمحاربة الفساد وإقامة الحرية والمساواة، وهذا كان أجمل ما فيه وتحقق في بعض بلدان الربيع العربي ولو بشكل نسبي. ولكن كان هناك الجانب الآخر، وهو ظهور الأجندات السياسية من قبل المشغل الخارجي، التي قسمت مجتمعات بعض بلدان الربيع العربي وجعلته متقاتلا، مثل ما حصل في سوريا واليمن وليبيا.
هذه الكيانات السياسية والعسكرية الجديدة التي ظهرت خلال ثورات الربيع العربي أوجدت شرخا في بيئة الدولة المركزية التقليدية. هذا الشرخ كان عبر الأجندات المختلفة التي كانت تسير هذه الكيانات عبر دول باتت معروفة. فقد رأينا بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا انقسام هذا المكون الذي كان يعادي الدولة في ليبيا وهدفه إسقاطها إلى شقين في الشرق والغرب وكل منهما له جيش يحميه ودول تقف معه لتحقيق مصالحها في المنطقة، وهذا كان حال اليمن وسوريا كذلك. ونستثني الدول التي أصابها التغيير، والتغيير المضاد سلميا عبر التظاهرات الشعبية المحقة المطالبة بالتغيير السلمي مثل مصر وتونس.
سوريا من بين دول الربيع العربي التي شهدت تحولا كبيرًا على المستويين السياسي والعسكري، مما أحدث تغييرًا عميقا في بنية الدولة. ففي بداية أحداث ثورتها كان الطابع السلمي هو السائد فيها، وعبّر عن مطالب مشروعة لمن خرجوا ينادون بالتغيير. ونحن هنا لسنا جهة حكم على هذه الأحداث، فالكل كان له روايته الخاصة، سواء من الحكومة أو المعارضة وتدعم هذه الروايات آلة إعلامية تقليدية
حكومية، وآلة إعلامية أخرى ضخمة ومنظمة تخص المعارضة.
المهم أن هذه التظاهرات الشعبية كانت بالفعل سلمية ومشروعة في بدايتها، وحظيت بتأييد واسع، إلا أن التحول العسكري المسلح الذي طرأ على هذه المظاهرات غير واقعها السلمي بظهور أجندات سياسية وعسكرية، ارتبطت للأسف بجهات خارجية أثرت عليها وغيرت من سلميتها. وهذا ما ذكره تقرير الفريق “الدابي”، مبعوث الجامعة العربية لتقصي الحقائق في سوريا، الذي أشار إلى وجود جسم عسكري منظم وممول يقاتل الدولة، وهو ما كانت الحكومة السورية السابقة تؤكد عليه ذلك الوقت، فقوبل تقرير “الدابي” باستهجان كبير من أولئك الذين
في
أرادوا رواية تتماشى مع خطابهم حول سلمية الأحداث في سوريا. هذه الوقائع أردت أن أسردها لنصل إلى مغزى عنوان المقال “ثلاثة أعلا م في دولة، وهو الأمر الذي حصل في سوريا قبل الإطاحة بنظام “الرئيس السوري السابق بشار الأسد فبعد بسط الجيش السوري السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضي السورية، بمساعدة الحلفاء، بقيت منطقتان خارج نطاق سيطرة الحكومة السورية، وهما
1 شمال شرق الفرات تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي هي تحت الحماية والرعاية الأمريكية، ولها أجنداتها ا لانفصالية عن الدولة المركزية وتسيطر على منابع الطاقة في
سوريا.
2 شمال غرب الفرات تحت سيطرة الجماعات المسلحة، وهي تنظیمات مختلفة قاعدية وإخوانية عاصمتها محافظة إدلب وتحت رعاية تركية وبينها وبين الحكومة السورية السابقة اتفاقات تهدئة عبر الثلاثي الروسي والإيراني والتركي، والمعروفة سياسيًا باتفاقات “أستانة وسوتشي”.
هذا الواقع السياسي والعسكري كان قائمًا في سوريا حتى قبل الحديث عن الإطاحة بحكومة بشار الأسد فقد باتت الجغرافيا السورية تشهد رفع علمين غير العلم الرسمي للدولة، وكلاهما يمثل أجندات مختلفة تقف وراءها قوى إقليمية وعالمية. ومن أبرز هذه الأجندات السعي للتخلي عن دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وتجريد سوريا من دورها كدولة حاضنة وممر استراتيجي لهذه الحركات.
الحكومة السورية السابقة كانت ترفض هذا العرض، ولو قبلته عندما زارها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “كولن باول” عقب احتلال العراق ، لكان المشهد السياسي والعسكري في سوريا مختلقا تماما عما آل إليه لاحقا. قد يتفق معي البعض ويخالفني ،آخرون وهذا حق مشروع؛ إذ إن قراءة الأحداث في سوريا تختلف باختلاف الرؤية السياسية والخلفيات الفكرية. لكن ما يجمعنا جميعًا هو الإيمان بمطالب الشارع السوري في ا لإصلاح وتحقيق الرفاه الاقتصادي، فهذا الشعب يستحق أن ينعم بالا ستقرار بعيدًا عن صراعات الأجندات السياسية المختلفة.
غير أن لعنة الموقع الجغرافي كما يصفها علم الجغرافيا – تنطبق على سوريا بوضوح إذ إنها تواجه عدوّا محتلا في الجولان، وآخر يسعى لتحقيق أطماعه في الشمال. لذلك تحول ربيع سوريا إلى أداة عسكرية موجهة من الخارج لتحقيق أجندات سياسية وعسكرية باتت معروفة للجميع.
قد تبدو هذه مقدمة مطوّلة للأحداث التي شهدتها سوريا، لكنها تضيء على التحول الكبير الذي أعقب سقوط نظام الحكم الذي استمر لأكثر من خمسين عامًا. فقد أدى هذا التغيير إلى سقوط أحد الأعلام الثلاثة، الذي حمل أجندة سياسية خاضت لعقد من الزمن حربا سياسية
وعسكرية واقتصادية انتهت في نهاية المطاف إلى انهيار هذا النظام. في هذا السياق، يقول المفكر والفقيه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “إن سقوط الدول والحضارات يكمن في عدة أسباب، منها السياسية وا لاجتماعية والاقتصادية. ويركز على ضعف العصبية، وهذا ما تجلى بوضوح في الحالة السورية، حيث اجتمعت هذه الأسباب داخل سوريا. فعلى الصعيد السياسي، لعب الصراع الداخلي دورًا محوريًا، خاصة مع الرايتين اللتين ارتفعتا ضد الدولة المركزية. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أسهم الحصار الاقتصادي وتدهور الليرة السورية، خصوصا بفعل “قانون” قيصر” الأمريكي في تعميق الأزمة وتسريع الانهيار، أما ضعف العصبية فيقصد بها إبن خلدون القوة التي تحيط بالحاكم وتحميه من السقوط، ولو أسقطنا هذا الأمر يكون الجيش والجيش سلم وكانت صفقة سياسية أو سميه اختراق لكبار جنرالات الجيش السوري السابق فضعفت العصبية التي كانت تحمي النظام وكان هذه السقوط السريع
ربما يكون النظام السابق غير مثالي في الداخل السوري، وله أسبابه في ذلك، ولكنه كان مثاليًا في السياسة الخارجية وخاصة فيما يتعلق ب القضية الفلسطينية واللبنانية فهو ينطلق من منطلقات قومية عروبية، وما قدمه النظام السابق من دعم مادي ومعنوي لكل من يحارب إسرائيل واضح ولا أحد ينكره وربما كان هذا من أسباب سقوطه وإيجاد نظام بديل يجعل القضية الفلسطينية ثانوية، وما تفعله إسرائيل في المنطقة لا يتعدى دائرة “نشجب ونستنكر” فقط.
سقط النظام السوري السابق، وكما قلنا، فإن سقوطه له أسباب ظاهرة لنا ذكرناها حسب توصیف ابن خلدون في سقوط الحضارات والدول. وطبعا هناك روايات عدة ستخرج، وبعضها أصبح معلنا في كيفية سقوط النظام. هل كان اتفاقاً سياسياً بين حلفاء سوريا وخصومها؟ والأ كيد أن هناك من يدعم ما حصل للنظام السابق من داخل سوريا، بصرف النظر عمّن استلم الحكم وما نتائج هذا الأمر المهم سقوط الأسد، لأنه – في منظوره الخاص – يريد الإصلاح وإقامة الحريات. وهذا الأمر نتمناه لسوريا ما بعد النظام ولكن السؤال الجوهري والمهم هل يتحقق هذا ا لأمر على أرض الواقع وسط هذه الأجندات السياسية المختلفة لمن استلم الحكم في سوريا، ومن يدعمهم من الخارج؟ فهل ستبقى قاعدة
وحدة وسيادة الأراضي السورية العنوان البارز لحكام سوريا الجدد؟ وفي المقابل، هناك من تأثر ويعتقد بأننا خسرنا دولة محورية في المنطقة كانت على مدار سنوات حكمها شوكة في حلق إسرائيل، بدعمها واحتضانها لقوى المقاومة بكافة تنوعاتها ضد الكيان الصهيوني.
الخاسر والرابح من سقوط النظام السوري السابق
الكيان الصهيوني يعتقد الكثير من المتابعين لما حصل في سوريا مؤخرا أن إسرائيل هي أكبر الرابحين من سقوط نظام “بشار الأسد”. فهل ربح الإسرائيلي بسقوط النظام ؟! هنالك قاعدة نعمل بها ما يفرح ا لإسرائيلي يحزننا وما يحزنه يفرحنا ما حصل في سوريا أفرح الصهاينة؛ فبعد السقوط مباشرة، تمت السيطرة على جبل الشيخ الموقع الاستراتيجي للدولة السورية من قبل الجيش الإسرائيلي. وبحسب المصادر الإخبارية، قام سلاح الجو الإسرائيلي خلال يومين فقط بأكثر من 1000 طلعة جوية دمّر فيها مقدرات الأسلحة السورية الا ستراتيجية الموجهة لحرب مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، فدمرت المطارات والأسلحة الثقيلة، وما زال التدمير واحتلال المناطق السورية مستمرا. هذا الأمر يجعله رابحاً كبيرا من سقوط النظام السوري السابق ولكننا ما زلنا ننتظر قرارات الحكومة الجديدة، ربما تأخذ الحد المقبول والمنطقي في مقارعة إسرائيل، خاصة بعد احتلالها أراضي جديدة في سوريا
الشعب السوري يمكن أن يكون الرابح الأكبر من سقوط النظام السابق إذا تمكنت الحكومة الجديدة من طي صفحة الماضي وتلبية تطلعات الشعب التي كانت مغيبة عن السلطة السابقة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي على الحكومة أن تسعى لمعاملة جميع شرائح الشعب السوري على قدم المساواة، بعيدا عن أي انتماءات مذهبية أو طائفية أو عرقية، تحت مظلة الوطن الواحد بهذا النهج، يمكن للشعب السوري أن يصبح المستفيد الأكبر من التغيير. ومن المهم أن تمنح الفرصة للشعب السوري لتتبلور لديه رؤية واضحة ووعي بما يجري، ليقرر بنفسه ما إذا كان سقوط النظام قد أتى بفائدة حقيقية أم أنه فتح الباب أمام الفوضى وانعدام الاستقرار الأمني.
القضية الفلسطينية: معروف أن النظام السابق كان حاضنا لقوى المقاومة الفلسطينية بكافة شرائحها، وكان الاحتضان سياسياً وعسكريا. واليوم نرى الحكام الجدد يطالبون هذه القوى بتسليم الأسلحة الثقيلة والمقرات التدريبية للدولة الجديدة والرحيل من سوريا، وهذا كان مطلباً أمريكيا وصهيونيا، وكانت السلطة السابقة ترفضه. ربما الحكم الآن على الربح والخسارة بالنسبة للقضية الفلسطينية من قبل السلطة الجديدة يحتاج إلى وقت حتى تتبلور الحكومة القادمة في سوريا. ننتظر ونحكم بعدها؟!
الروسي والإيراني كما هو معروف فقد كان الروسي والإيران حلفاء للنظام السابق، والجهد العسكري لهذين الحليفين كان واضحاً خاصة من الجانب الروسي، الذي له قواعد عسكرية بحرية وجوية في سوريا. اليوم ما مصير هذه القواعد وإذا تم إخلاءها ستخسر روسيا موطئ قدم مهم قبالة البحر الأبيض المتوسط وتخسر وجودها في المياه الدافئة وستكون خاسراً كبير بسقوط النظام السابق، يقال بأن هنالك اتفاق روسي أمريكي بتسليم سوريا مقابل أوكرانيا، وهذه كلها تكهنات لا دليل عليها والحسم في مسألة القواعد العسكرية الروسية سيكون عندما يتولى “ترامب” الحكم. أما الإيراني فوجوده العسكري تقلص أو انعدم بعد سقوط النظام ويبقى الوجود السياسي والذي سيتحدد طبيعته وحجمه في قادم الأيام بعد تشكيل الحكومة السورية الجديدة
المهم بأن الروسي والإيراني خسارتهما كبيرة بسقوط النظام السابق. التركي ربما يكون التركي أحد أبرز الرابحين من سقوط النظام السابق، حيث لعب دور الداعم الرئيسي للجماعات المسلحة التي ساهمت في إسقاط نظام بشار” “الأسد” هذا الدعم يجعل حلم تركيا بالسيطرة على حلب والشمال السوري أقرب إلى التحقق مما يعزز مكاسبها حتى الآن. ومع ذلك، يبقى مصير” “قوات “قسد” المدعومة أمريكيا عاملا محسوم بالنسبة للتركي وينتظر الحسم من الإدارة الأمريكية المقبلة، المتمثلة بالرئيس “ترامب”. إذا تم القضاء على تواجد “قسد”، فإن تركيا ستكون الرابح الأكبر، لأن ذلك سيمنع تشكل أي كيان كردي مستقل يمكن أن يشكل تهديداً مباشراً لأمنها الداخلي، خاصة مع وجود قضية ا
غير
لأكراد في تركيا الذين يعانون من سياسات حكومة أردوغان. أما إذا استمرت قوات “قسد” تحت الرعاية الأمريكية وسيطرت على شمال سوريا، وخصوصاً المناطق الحدودية مع تركيا، فقد تواجه أنقرة خسارة استراتيجية كبيرة. ذلك أن إنشاء دولة كردية على حدودها سيعزز المخاوف التركية من تحفيز تطلعات أكراد تركيا للاستقلال، مما يهدد استقرارها الداخلي بشكل كبير.
هنالك سؤال جوهري كبير بعد سقوط النظام السوري السابق وفرحة إسرائيل الكبيرة لهذا السقوط هل شفيت جروح الكيان الصهيوني التي سببتها معركة “طوفان” “الأقصى” ومعارك الإسناد اليمنية واللبنانية و العراقية؟ الجواب بالتأكيد أن جراحه ما زالت تسيل ولم يتم ضمادها، فمحور المقاومة خسر دولة محورية، ولكنه في انتظار قرارات الحكومة الجديدة ضد إسرائيل، خاصة بعد ما قامت به من تدمير واحتلال بعد سقوط النظام السابق مباشرة. أما المحور الذي يقاتل إسرائيل فما زال قويا، والضربات ضد الكيان شاهد على ذلك، وليس آخرها الصاروخ الفرط صوتي اليمني الذي أصاب تل أبيب حزب الله يحتفظ بسلاحه وعلى أهبة الاستعداد، والمجاهدون في غزة صامدون يقاتلون من أجل قضيتهم منذ أكثر من 13 شهرا، والعدو الصهيوني لم يحقق ما كان يعلن عنه من أهداف، وأهمها تحرير الأسرى وتدمير القدرات الصاروخية لحزب الله فالمقاومة بخير والحمد لله.
المسلحة
سوريا كانت تحكم بثلاثة أعلام لها أجندات مختلفة، واليوم بعد سقوط العلم الأقدم بقي علمان، لكل منهما مشروع في سوريا. المشروعان نستطيع تسميتهما المشروع الأمريكي بعلم قوات “قسد” الذي يسيطر على آبار النفط والغاز في شمال سوريا، والمشروع التركي الذي يحلم ب السيطرة على شمال شرق سوريا والقضاء على أكراد سوريا. والمتابع لا يستبعد المواجهة بين هذين العلمين اللذين كانا السبب المباشر في إضعاف العلم القديم فهل المواجهة قادمة بين قوات قسد والجماعات مع الجيش التركي؟ لأن التركي إذا قبل بالوجود الكردي على حدوده فسوف يثير الأكراد في الداخل التركي ويطلبون بدولة لهم. أعتقد أن هذا الأمر متروك لغاية وصول سيد البيت الأبيض الجديد. ختاما، أتمنى أن يكون الرابح الأكبر هو الشعب السوري بكافة مكوناته فهذا الشعب تعب من الحروب ويريد أن يستقر سياسيا واقتصاديا، ويحس بطعم الأمان والرفاه الاقتصادي. وهذا الأمر ستحدده الحكومة السورية القادمة، وسوريا حبلى بأحداث كبيرة مستقبلا ، ونرجو أن يكون الحدث الكبير هو ما يفرح المواطن السوري.