استشهاد جيفارا العرب
بقلم:جمال بن ماجد الكندي
ربما تختلف الشخصيات النضالية التحررية من حيث ما تحمله من عقيدة وفكر ديني يتعبد به، ولكنها لا تختلف فيما تحمله من أيديولوجية تحررية تقاتل العدو بها، فهي تتقاطع مع من يحمل هذا اللواء، ولو اختلفت التوجهات الدينية فيما بينهما، فهم يلتقون في بوصلة مؤشرها حركة النضال والجهاد من أجل التحرر.
من هنا ذكرت في عنوان المقال “استشهاد جيفارا العرب”، وأقصد به استشهاد القائد المجاهد الكبير “يحيى السنوار” ، الذي استشهد وهو يقاتل الصهاينة مقبلًا غير مدبر، فنال الشهادة التي يتمناها، كما نالها إخوته من قبل في المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
الشهيد المجاهد “يحيى السنوار” من القادة السياسيين البارزين في حركة المقاومة الإسلامية حماس، وقد انخرط منذ شبابه في مقاومة العدو الصهيوني. في عام 1989م تم اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهم تتعلق بمقاومة الاحتلال، وقضى في سجون الاحتلال 22 سنة حتى تم الإفراج عنه في صفقة تبادل الأسرى عام 2011م (صفقة شاليط). في عام 2017م تم انتخابه قائدًا لحركة حماس في قطاع غزة، وأصبح مسؤولًا عن إدارة العمليات العسكرية والتفاوضية. وبعد اغتيال “إسماعيل هنية” تم انتخابه ليكون رئيس حركة حماس.
يُعرف “السنوار” بشخصيته القوية وقدرته على اتخاذ القرارات في الأوقات الحرجة، ما أكسبه سمعة القائد الحازم. “السنوار” هو مهندس ومخطط معركة طوفان الأقصى، إلى جانب القائد العسكري “محمد الضيف” وآخرين. هذه المعركة كسرت أنف المحتل الصهيوني، وفعلت ما لم تفعله الجيوش العربية في كل حروبها مع إسرائيل، فقد
كانت خسائر العدو الصهيوني في هذه المعركة أكثر من 1500 قتيل، وغيرت هذه المعركة معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني، خاصة بعد أسر إسرائيليين في معركة طوفان الأقصى.
أوجه الشبه بين الشهيد “السنوار” و”جيفارا” أن كليهما قاتل إلى الرمق الأخير منتشين أسلحتهم في وجه أعدائهم. “جيفارا” هو المناضل الأرجنتيني “إرنستو تشي جيفارا”، الذي كان ثوريًا ماركسيًا وأحد القادة البارزين في الثورة الكوبية. تميز “جيفارا” بتفكيره الثوري المناهض للاستعمار والإمبريالية، وكان من الداعمين لثورات التحرير في أمريكا اللاتينية والعالم الثالث. لذلك أصبح بعد إعدامه رمزًا عالميًا للنضال ضد الإمبريالية والظلم الاجتماعي، ورمزًا للحركات الثورية حول العالم، حيث يستمر تأثيره حتى اليوم.
الشهيد الكبير “يحيى السنوار” هو قائد من طراز “جيفارا”، فقد كان يحمل فكر التحرر الوطني من أجل القدس والقضية الفلسطينية، ونقاط التقاطع بينه وبين “جيفارا” هي أنهما يحاربان نفس العدو الذي يدعم الدكتاتوريات في المنطقة، مع مراعاة اختلاف الزمان والمكان. فأمريكا هي الداعم الأول للعدو الصهيوني، وكانت كذلك الداعم الأول للدكتاتوريات في أمريكا اللاتينية، حديقتها الخلفية. وهي لا تريد أن ترى قائدًا نضاليًا شعبويًا من طراز “جيفارا” في شخص “السنوار” أو السيد “حسن نصر الله” في المنطقة، وتعتقد أن بزوالهم تزول القضية. لذلك تم اغتيالهم.
هنا نحن أمام سؤال كبير: ماذا بعد استشهاد “السنوار”؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نقول: ماذا حصل بعد اغتيال “السيد حسن نصر الله”؟ العدو الصهيوني ومن وراءه أمريكا وصهاينة المنطقة طبلوا وهللوا فرحًا باغتيال “السيد حسن نصر الله”. فهل تراجعت المقاومة في لبنان؟ العكس يثبته الميدان، بصواريخ المقاومة اللبنانية التي تضرب عمق فلسطين المحتلة بكثافة أكبر وباستراتيجية جديدة لا تميز بين الأماكن العسكرية والمدنية، فكلها بعد استشهاد “السيد نصر الله” في مرمى صواريخ المقاومة، والعملية البرية في جنوب لبنان لم تحقق هدفها الاستراتيجي في إبعاد المقاومة اللبنانية إلى ما وراء نهر الليطاني، فالقوات الإسرائيلية ما زالت تراوح مكانها بعد 14 يومًا من بدء العملية البرية التي أعلن عنها العدو الصهيوني.
أما بعد استشهاد القائد “يحيى السنوار”، كانت ردود الأفعال من حلفاء إسرائيل، الأمريكي والبريطاني، واضحة عبر تصريحات نائبة الرئيس الأمريكي، ووزير الخارجية البريطاني، حيث قالا إن الوقت قد حان لوقف إطلاق النار لضمان حماية إسرائيل، وبعدها يأتي فك الحصار النسبي عن غزة والتحدث عن اليوم التالي دون وجود حماس في السلطة.
يُخيل لمن يسمع هذا الكلام بأن القائد الشهيد “السنوار” كان هو العائق الأكبر في إتمام أي صفقة تعيد الأسرى الإسرائيليين وتوقف الحرب. والحقيقة التي يعلمها الجميع، بما فيهم الأمريكي، أن من كان يقف ضد كل الصفقات السابقة لوقف الحرب وإعادة الأسرى هو “نتنياهو” بتدخله المباشر لعرقلة أي اتفاق لوقف إطلاق النار، حتى أنه عارض مبادرة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لوقف إطلاق النار والتي أيدت بقرار أممي.
رحيل “السنوار” عن الساحة النضالية في فلسطين لن يغير من الأمر شيئًا، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الأسرى الإسرائيليين ما زالوا في خانة المجهول، ولا يعرف عنهم إلا الضيف وأعوانه. والاتصالات الهستيرية التي يقوم بها الإسرائيلي والأمريكي لمعرفة مكانهم لن تنفعهم، فهم في قبضة رجال “السنوار” في غزة، والشروط للإفراج عنهم هي ذاتها لم تتغير، وقد ذكر القيادي في حركة حماس “خليل الحية” بعد استشهاد “السنوار” أن شروط الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لم تتغير بعد استشهاد” السنوار.
الشهيد البطل “يحيى السنوار” ومن قبله “السيد حسن نصر الله” أصبحوا أيقونات للنضال والجهاد من أجل التحرر الوطني في فلسطين ولبنان ضد العدو الصهيوني. فدماؤهم وقود ومدد لمن يأتي بعدهم من قادة سياسيين وعسكريين، والمجاهدون على الأرض يستمدون طاقتهم من خطبهم الجهادية، فهي مشاعل توقد لهم درب الجهاد المقدس. والعدو الصهيوني ارتكب خطأ فادحاً سيندم عليه بتسريبه المقطع المصور للشهيد “السنوار” وهو يقاتل ويرمي الطائرة التي تصوره. فهذا المشهد يدحض كل مزاعم الصهاينة بأن الرجل يتحصن في الأنفاق ويجعل من الأسرى الصهاينة دروعًا بشرية، فسوف تبقى هذه الصورة للسنوار وهو يقاتل إلى الرمق الأخير هي الصورة النمطية لهذا القائد الفذ الذي استشهد من أجل القدس وفلسطين، وهي التي ستكون وقودًا للمجاهدين ولمن يأتي بعده لتكملة النضال والجهاد في قيادة حركة المقاومة الفلسطينية حماس.