عرض وتحليل لفكرة الدكتور سلام الكندي النقدية
بقلم: كمال بن سيف الفهدي
لكي أكون منصفاً مع سلام الكندي تابعت اللقاء الذي عرض على اليوتيوب كاملاً وخرجت بالآتي:
1. لا يمكن الانتقاص من سلام الكندي، فالمقابلة أظهرته جلياً، وهو يستحق الاحترام والتقدير، وقد درس في عمان وفي فرنسا، ثم تدرَّج على سلّم الشهادات العلمية واجتهد طوال فترة حياته في المجال الذي يحبه وهو الأدب، ثم عاد إلى الشعر العربي الجاهلي الذي يحبه وحاول استنباط نظرية نقدية جديدة من داخل النصوص العربية الجاهلية.
2. لا ندري ماذا حصل له خلال مسيرته بالضبط، ولكن انعكاسات ما حصل له بادية على وجهه وطريقة حديثه، وهذا ليس مهماً جداً بالنسبة لي، لكنه يهم البعض، والمزيد من اللقاءات معه قد تنضح بأشياء منها.
3. الانعكاس الأخطر لما حصل له خلال مسيرته قد يكون في جَلده للذَّات العربية وللأدباء والنقّاد العرب، ففي اللقاء ـ من أوله إلى آخره ـ كان يجلد النقاد والأدباء العرب ـ خاصة ـ الذين ظهروا في الحقبة الأخيرة ليس ابتداء من طه حسين وليس انتهاء بأدباء وشعراء ونقاد اليوم.
4. دراسته للنظريات النقدية الغربية (البنيوية والتفكيكية والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وغيرها) أكسبه قدرة كبيرة على تمييز القراءة الجيدة للنصوص العربية ومعرفة من يقرأ جيداً ومن لا يقرأ جيداً، وقد خرج بنتيجة أن كل العرب لا يعرفون القراءة الجيدة للنصوص العربية من حيث توظيف النظريات النقدية في دراسة النصوص، وهذا تعميم خطير لا يمكننا التسليم به فضلاً على أن نوافقه.
5. عاب سلام الكندي على النقاد العرب أنهم لم يبتكروا نظريات نقدية ينظرون من خلالها للنصوص العربية، وأرجع السبب في ذلك إلى الانهزامية وعدم وجود الفهم الصحيح للنصوص، ولم يَرُقْ له جهد كل النقاد العرب إلا الجهود التي قام بها محمد عابد الجابري، وأرجع سبب نبوغ الجابري في النقد إلى دراسته في فرنسا واطلاعه على المدارس النقدية الغربية وقراءته لها بلغتها الأم، وهنا نقول لسلام الكندي: ليس مثلك من يجهل أن التعميم لغة الجهلاء وأن التعميم ليس لغة علمية محترمة ولا موضوعية، وأنك إذا كنت تختلف مع النقاد والأدباء العرب في أمر، فلا يمكن أن تنسف جهودهم ودراساتهم ومحاولاتهم بضربة واحدة.
6. عرّج سلام الكندي على أدلة إثبات وجود الشعر العربي الجاهلي وصحة نسبته للجاهليين فذكر منها: كل الملاحم القديمة مثل (ملحمة جلجامش البابلية والإلياذة والأوديسة الهوميروسية) كانت شفوية ولم تُكتب إلا بعد مضي خمسمئة أو ستمئة سنة من قول شعرائها لها، فمن السهل إثبات صحة الشعر العربي الجاهلي الذي كُتب بعد خمسين سنة تقريباً من صدوره من أصحابه ـ حسب قوله ـ فمن ناحية الإمكانية هو ممكن الحدوث، بل هو أفضل حالاً من تلك الملاحم الشعرية القديمة، والدليل الثاني هو تأثير أهل الكتاب على الواقع العربي الجاهلي وهم الذين عاشوا في الجزيرة العربية لفترة طويلة قبل الإسلام ومن الطبيعي أن يكونوا قد نقلوا خبرتهم في القراءة والكتابة للعرب.
7. عاب سلام الكندي على النقاد والأدباء العرب عدم تمكُّنهم من ابتكار نظرية نقدية أو فهم النظريات النقدية الغربية فهماً صحيحاً، بل وعدم قراءة النظريات الغربية بلغتها الأم، كما عاب عليهم عدم تمكنهم من تجاوز المدارس النقدية الغربية إلى ما بعد الحداثة وعدم قدرتهم على كتابة نصوص حديثة كالتي عند الغرب، وتحداهم بأن يأتوا له بقصيدة عربية حديثة ليست متأثرة بتفعيلات الخليل بن أحمد الفراهيدي أو الشعر الغربي الحديث، وهنا لا بد من تنبيه سلام الكندي أن العرب في القرون المتأخرة ليسوا في أحسن حال وأن دورة الحضارة قد تحولت غرباً وأن العرب يوم أن كانت الحضارة تدور عجلتها في مواطنهم كانوا يبتكرون ويخترعون ويعلّمون الآخرين، فجَلدُ العرب بهذه الطريقة لا يخدم العملية النقدية، وليس مثل سلام الكندي من يجهل فضل الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابتكار بحور الشعر وعبد القاهر الجرجاني في ابتكار طبقات فحول الشعراء وأبي الأسود الدؤلي وغيرهم على المستوى اللغوي، كما لا ينبغي لمثل سلام الكندي أن ينسى أن أول جامعة في فرنسا في مدينة (ساليرنو) بالتحديد أُرسل إليها علماء مسلمون عرب من الأندلس يعلّمون فيها ويحملون معهم آلاف الكتب إلى أن قامت على قدميها [ كما ذكر ذلك غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب)] لقد قسا سلام الكندي على العرب في هذه المقابلة، وقد نلتمس له عذراً فيما يظهر من ملامح وجهه أنه قد تعرض لمواقف جعلت موقفه من النقاد والأدباء العرب يكون بهذه القسوة.
8. أشار سلام الكندي إلى حسنات المستشرقين التي لم يذكرها (إدوارد سعيد) في كتابه (الاستشراق) ولم يذكرها سلام نفسه، ويبدو أنه يقصد أن بعض المستشرقين لفت الانتباه إلى النصوص العربية وجودتها وقوتها الموسيقية والمعنوية، كما يحتمل أنه كان يقصد طريقة تناول المستشرقين لتلك النصوص العربية وإيصالها للعالمية.
9. خاصم سلامُ الكندي طه حسين كما خاصمه كثير من الأدباء والنقاد واتهم كتابه (في الشعر الجاهلي) بالانتحال من مقالة الأديب الإنكليزي من أصل يهودي مارجليوث، ومن وجهة نظري أرى أن طه حسين درس في فرنسا ـ أيضاً ـ مثل سلام الكندي ومحمد عابد الجابري وغيرهم واطلع على الأفكار الغربية وقرأ المقالات التي تصدر في المجلات الغربية ولا بأس في أن يتأثر أديب ما أو ناقد ما بمقال أو يأخذ فكرته من كتاب أو ينضّج فكرة أستاذه، وهذا ما قاله المدافعون عن طه حسين، فهو وإن اقتبس الفكرة من مقال مارجليوث إلا أنه أخضع النصوص العربية الجاهلية للمعايير التي حددها المقال وزاد عليها، وكما أن لطه حسين خصوماً فإن له مؤيدين ولكلٍ حججه وبراهينه على ما يقول وهي مبثوثة في كتب النقد العربي الذي عاصر حقبة طه حسين وما بعدها، وأن رأي سلام الكندي في كتاب طه حسين ليس رأياً جديداً ولا الحجح التي ساقها حججاً جديدة، وإنما هو امتداد للحراك النقدي الذي بدأ في القاهرة ووصل إلى مسقط كما وصل إلى الكثير من العواصم.
10. أشار سلام الكندي إلى نظرية نقدية جديدة ابتكرها في كتابه (السائر على غير هدى) الذي يتحدث فيه عن أصالة الشعر العربي الجاهلي وصحة نسبته للجاهليين ويقول: “استخرجت نظرية نقدية جديدة من داخل النصوص العربية الجاهلية، ولم يفهم هذا الأمر أحد إلا الفيلسوف الفرنسي ألان باديو الذي كتب مقدمة لهذا الكتاب” ولا ندري لماذا لم يذكر النظرية النقدية الجديدة، ربما لأن الوقت لم يسعفه أو لأجل تشويق القرّاء وتشجيعهم لاقتناء الكتاب والبحث عن النظرية الجديدة التي ابتكرها ـ حسب تعبيره ـ والأمر يستحق من القرّاء والمهتمين ـ فعلاً ـ أن يقتنوا الكتاب ويقرأوه جيداً ليطَّلعوا ـ أولاً ـ على فكر سلام الكندي ثم ليستخرجوا النظرية النقدية الجديدة التي ابتكرها ـ حسب وصفه ـ ويبدو لي أن سلام الكندي يؤمن بالمدرسة التفكيكية التي أسسها (جاك دريدا) حيث يظهر ذلك جلياً عندما طلب من النقاد والأدباء العرب أن يقرأوا الشعر الجاهلي عدة قراءات يفصلون فيها بين قراءة وقراءة ثم يرتقوا بالنص إلى قمم وآفاق جديدة ـ حسب وصفه ـ وهذا النوع من القراءة يندرج تحت مبادئ القراءة التفكيكية، وقد أكون مصيباً في ظنِّي باعتناقه مبادئ المدرسة التفكيكية وقد أكون مخطئاً، فهو لم يصرّح بذلك وإنما ألمح إليه، ثم إني أسأل هل يمكن أن تكون نظرية سلام الكندي الجديدة هي تلك التي أشار إليها في معرض حديثه عن كيفية تناول القصيدة الشعرية الجاهلية؟! حيث أشار إلى أنه ينبغي النظر إلى القصيدة الجاهلية بالمقلوب أي قراءتها من الأسفل إلى الأعلى ومن النهاية إلى البداية والابتداء بالغرض الشعري سواء كان فخراً أم رثاءً أم هجاءً أم غير ذلك ثم النظر في الملاحم والمعارك التي يذكرها كل شاعر جاهلي ثم التعريج على الحيوانات المذكورة في كل قصيدة ثم النظر في المقدمات الطللية، وهذه القراءة ـ إن كانت هي النظرية ـ فهي لا تخرج عن نطاق المدرسة التفكيكية، ورغم ذلك تجب علينا قراءة كتابه والاطلاع على نظريته الجديدة وعدم الاكتفاء بالتخريص والتكهّن والظن، فإن الظن لا يغني من الحق شيئاً، ولكن قلت ذلك لمجرد المحاولة لفهم ما يرمي إليه سلام الكندي بالإشارات البعيدة إلى نظريته الجديدة التي تحدّث عن وجودها في ثنايا كتابه (السائر على غير هدى).
11. لا يمكن الحكم على سلام الكندي إلا بعد قراءة كتابه والاطلاع على المزيد من أعماله، فكما يبدو هو صاحب هَمٍّ وفِكرٍ يحتاجان للدراسة ولوضعهما على ميزان النقد، فهو شخص غامض ـ بالنسبة لنا ـ وما يزال ظهوره نادراً، وحريٌّ بالمهتمين بحقل النقد الأدبي أن يجلسوا مع سلام الكندي ويتناولوه بالدراسة، ولا يتسابقوا إلى الحكم عليه بمجرد تراسل مقتطفات من لقائه أو الحكم عليه بمجرد النظر إلى طلّته وشكله الخارجي.
في الختام، نؤيد ما قاله سلام الكندي في أننا نحن العرب نحتاج لبعث المنظِّرين من جديد وتمكينهم من كل نواحي الحياة، وتطبيق النظريات التي يخرج بها هؤلاء المنظِّرون واختبارها على أرض الواقع، كما نتفق معه في كثير من الأمور التي ذكرها في المقابلة مثل ضرورة القراءة الصحيحة لكل النصوص الموروثة واستنباط الفوائد منها وعدم الاكتفاء بنقل النظريات الغربية وإخضاع النصوص العربية لها، تلك النظريات التي قد لا تكون صالحة للتطبيق على نصوصنا العربية الطافحة بالجمال والمثقلة بالمعاني، كما ندعو الأدباء والنقاد العمانيين والعرب إلى الجلوس مع سلام الكندي والتعرُّف على تجربته والاستفادة من علمه في مجال النظريات النقدية الأدبية وتطبيقاتها.