توظيف مظاهر العولمة في تعزيز الاستجابة الإنسانية الفورية في الأزمات العالمية.. زلزال تركيا وسوريا نموذجا
كتبت: لارا إبراهيم
لطالما كان الحوار حول إيجابيات وسلبيات العولمة حوارا حامي الوطيس؛ حيث تتراشق دول العالم النامي الاتهامات ضد دول العالم الأول بأن العولمة هي مجرد شمّاعة اخترعتها دول العالم الغربي أو دول الشمال لأهداف تتمثل في سحق خصوصية الدول النامية، وفرض ما يعرف بظاهرة أمركة العالم. جميع هذه الأهداف تنصب في تعزيز الاقتصاد الأمريكي عن طريق تصدير أسلوب الحياة الأمريكي كتناول البرجر، وارتداء الجينز، واستهلاك الكوكا كولا كمشروب عالمي متفق عليه، ونشر أفلام هوليود بكل ما تحمله من رسائل سياسية واجتماعية واقتصادية مباشرة أو حتى ضمنية، وكرتون ديزني الذي يغرس في الأطفال قيم قد لا تتناسب مع حضارتهم ومبادئهم مما قد يخلق صدمة ثقافية للطفل في سن صغير، هذا دون أن نغفل عن الهدف الأسمى ألا وهو فصل الدين عن السياسة.
جميع هذه الاتهامات كانت من أكثر المواضيع التي نهوى مناقشتها، وإجراء مناظرات حولها خلال مرحلة الدراسة الجامعية للإعلام كتخصص في جامعة السلطان قابوس. كنا حينها طلابا عاشقين لتخصص الإعلام ومدفوعين بعنفوان الشباب والحماسة، مما قد جعل نقاشاتنا حول العولمة مثرية لنا، ومنيرة لعقولنا في تلك المرحلة. أما ما اكتشفته اليوم هو أن هذا النقاش والحوار حول العولمة لن ينتهي قريبا على الأقل على مستوى العالم، حيث أن العولمة أصبحت مفروضة فرضا على الدول العربية، وشر لا بد منه كما يدعي العرب والمسلمون. من هذا المنطلق، يراودني سؤال وجيه حول لماذا لا نغير نحن العرب قدر العولمة لتتخذ مسارًا جديدًا مفيدا لكل أزماتنا، ونبدأ من زلزال تركيا وسوريا كنموذج حي للتطبيق.
في وجهة نظري، هذه هي الطريقة المثلى لكي نثبت للعالم الغربي أننا لم ولن نخضع، ولن تُطمس هويتنا، وأننا قادرون على اكتشاف مواطن الخير في كل شر بدلا من هدر الوقت في نقاشات أخذت حيزا كبيرا من طاقتنا دون أن تقدم إفادة واقعية ملموسة. لذلك يكمن الحل في عدم الانشغال في صراعات غير متكافئة الفرص مع الغرب، فمن الأفضل أن نقدم للعالم صورة جميلة تتمثل في أننا قادرون على صنع التغيير الذي يبدأ أحيانا بأشياء بسيطة، وأن سقوط المصائب على رؤوس المسلمين من الممكن أن توجعهم للحظة ولكن قد توحدهم دهرا.
النظرة الغربية للعولمة:
العولمة أو الكونية: هي مصطلح سياسي، ثقافي واقتصادي في آن واحد، وهي مصطلح جديد لظاهرة قديمة تعود إلى القرن السادس عشر مع بداية الاستعمار الغربي، وتفشيه كالسرطان في العالم. تنص العولمة على أن العالم أصبح قرية كونية صغيرة يسهل فيها التواصل والتخاطب البشري عن طريق تعزيز التواصل العابر للجغرافيا عن طريق الأقمار الصناعية، وتكنولوجيا الاتصالات، ووسائل الإعلام الجديد، وعملية إذابة الحواجز والفوارق بين الدول. العولمة في نظر الغرب هي ما سينقذ العالم عن طريق الانفتاح بين الشعوب، والتعاون والتفاعل والتكامل الاقتصادي والثقافي والسياسي؛ بهدف النهوض بالإنسان.
النظرة الإسلامية للعولمة:
النظرة الإسلامية للعولمة تنطلق من أن الإسلام دين صالح لكل مكان وزمان، ودين يتسم بالمرونة كثيرا عدا ما يتعلق بغير الثوابت الدينية كالفروض، ومن يفهم هذه النقطة جيدًا يكون مدركا حق الإدراك أن الإسلام دين لا يمكن له أن يقف حائلا دون التطور في جميع المجالات. أكبر دليل على صحة هذا هو أن الإسلام يأمرنا بالقراءة والعلم وإعمار الأرض وهذه هي الصورة التي يحاول العالم الغربي تشويهها حتى عند أبناء المسلمين، حيث يدعون أن الإسلام هو دين متحجر ومتقوقع على نفسه ولا يقبل أن يجاري العالم في التطورات اليومية التي يشهدها. كما تتهم أن اللغة العربية بشكل مباشر بأنها من أهم أسباب تراجع المسلمين كونها لغة عقيمة ولا تصلح لحمل العلم.
إحقاقا للحق، كان لا بد لنا أن نعترف بأن هذه النظرة الغربية السوداوية للإسلام كان لنا دور فيها؛ وذلك عندما حارب مجموعة من علماء الإسلام بعض مظاهر التطور والعصرنة التي أنجبها الرحم الغربي، واتهامها بأنها أحد أهم أسباب الانحطاط الفكري والأخلاقي، وتفكك الأسرة في المجتمع الغربي، بدلا من توصيفها كما هي بأنها سلاح ذو حدين، يعتمد على طريقة اختيارك للتعامل مع هذا السلاح كالإنترنت مثلا.
من هنا نفهم أن الإسلام ليس ضد العولمة في المجمل، وإنما يدعو إلى ما يُعرف بالانتقائية، أي أخذ ما يتناسب مع القيم الإسلامية وترك ما يتنافى تنافيًا تامًا مع الخلق الإسلامي، وتطويع ما يمكن تطوعيه في سبيل الصلاح والمنفعة العامة. هذه الفكرة هي ما يمكننا تطبيقه اليوم في درس إدارة أزمة الزلزال المدمر الذي حل بتركيا وسوريا وأوجعها، هذا الألم الذي تداعى له سائر الجسد العربي بالرعاية والتراحم. يخيل إليّ أن مثل هذا الزلزال الذي حل بالأرض هو زلزال قد يوظف فينا مشاعر الوحدة العربية، وأننا كيان واحد لا يجب أن يتم اختبار لحمته عن طريق المصائب فقط.
إدارة أزمة زلزال تركيا وسوريا:
تقوم العولمة في أساسها على الاتصال والتواصل بين البشر عن طريق وسائل الاتصال المختلفة، وبالتالي فإن أي أزمة تحصل في بقعة من بقاع الأرض يتم تسليط الضوء عليها بشكل مكثف من قبل وسائل الإعلام التقليدية والجديدة. هذا كون أهمية الموضوع هي من أهم خصائص الخبر المتناقل على أجندة القنوات الإعلامية.
تسليط الضوء على الأزمة كزلزال تركيا وسوريا على سبيل المثال، هو الخطوة الأولى التي تسبق مخطط إدارة أزمة (الكوارث الطبيعية كنموذج)، والتي تشمل تقييم الوضعية الحالية للزلزال على سبيل المثال، ومن ثم تخفيف الأضرار عن طريق تقييم حاجيات الأشخاص المتضررين، والعمل على التقليل من الأضرار طويلة المدى على الأشخاص، والممتلكات الشخصية والعامة، وتداعياتها، ومن ثم مرحلة التأهب عن طريق نشر وعي أكثر بمستجدات الأزمة عن طريق تعليم الأفراد، وتأهيلهم مرورا بمرحلة الاستجابة على أرض الواقع وطريق تسخير المعونات، وغيرها وصولا إلى مرحلة التشافي، التي تتبعها مرحلة تقييم فعلية للألية التي مرت بها جميع المراحل السابقة.
جميع ما ذكر من خطوات ومراحل يهدف إلى استخلاص العبر والدروس المستفادة من إدارة تلك الأزمة، وهذه هي دورة إدارة الكوارث المنصوص عليها في علم إدارة الأزمات الذي تشعب كثيرا واتسع نطاقه نظرا لكثرة الحروب والصراعات الإنسانية والفقر والتلوث البيئي. حيث يعود هذا مفهوم إدارة الأزمة إلى الطب الإغريقي الذي تتمحور فيه الإدارة حول متطلب شفاء مريض ما يمر بحالة صحية حرجة في وقت قياسي، وذلك بعد حدوث نقطة تحول سلبية ومصيرية في حياة المريض.
تعزيز الاستجابة الفورية للزلزال من خلال مظاهر العولمة الثقافية:
سعت الدول العربية والإسلامية إلى التهافت في ارسال التبرعات المختلفة لإغاثة المتضررين، بالإضافة إلى تشكيل فرق إنقاذ عربية قررت أن تقف مع سوريا وتركيا الشقيقتين رغم الخلافات السياسية، حتى أن بعض هذه الدول العربية تمر بظروف اقتصادية سيئة جدا، نذكر منها تونس ولبنان، الا أن هذه الدول أبت أن تصد عن مساعدة الدولتين المنكوبتين، وهذا ليس بغريب على الأشقاء العرب الكريمين والجائدين بأفضل ما لديهم، ويبدو أن درس زلزال النيبال فعام 2015 قد بدى حاضرا أمام ناظر الجميع.
الإكثار من التنسيق بين الدول كان أكثر ما ينقص العرب وهي جزئية بسيطة كان بإمكانها أن تصنع الفارق، على الصعيد الجماعي، حيث كان من الممكن جدا أن تكون هذه المساعي فعاّلة بشكل أكبر، وهذا التنسيق لا يجب أن يكون فقط على صعيد الدول بل يجب أن يتم على صعيد المؤسسات المختلفة والفرق الخيرية بل يعزز عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي.
كما يجب العمل أكثر في إطار إرسال الأطباء والأخصائيين النفسيين للأطفال المتضررين من الزلزال؛ وذلك لمساعدتهم على تخطي ما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة، ولا ننسى أيضا الدور الكبير الذي بإمكان أطباء التجميل القيام به للحالات التي تعرضت للتشوه جراء الزلزال، وهنا نبرز الجانب الأجمل للطب التجميلي، حيث يكون التجميل ضرورة وليس حاجة وطبًا وليس تجارة ولا ننسى دور الفن في مثل هذه الأزمات حيث كان الفن من أهم ما يوحد وطننا العربي من المحيط للخليج.
تقديم الإغاثة المطلوبة من خلال مظاهر العولمة الاقتصادية:
لا بد من أن هذا الزلزال قد ألحق ضررا اقتصاديا على البلدين، وتسبب في نقص بعض من المنتجات التي تشتهر بها سوريا الشمالية وجنوب تركيا، كبعض المحاصيل الزراعية مثلا، وهنا بإمكاننا دعم هذه الدول في إيجاد بديل اقتصادي جيد من خلال العولمة الاقتصادية، مع تسليط الضوء على أهمية هذه المحاصيل بالنسبة لهذه الدول.
كما أنه من الممكن تعزيز الدور التكنولوجي في التنمية الاقتصادية، مع مراعاة عدم أن تكون التكنولوجيا صديقة للإنسان، وليست عدوة في حربه مع الآلة، حيث من الممكن للتكنولوجيا تحسين العمليات بشكل كبير. كما تساعد التكنولوجيا المالية الممثلة في الصيرفة الالكترونية على وصول الإغاثات خاصة عندما تدمج الصيرفة الالكترونية مع تطبيقات الهواتف الذكية المعنية بالمساعدات الخيرية، والتي تكون نزيهة وتضمن وصول الصدقات للمعنيين، وهنا بإمكاننا الإشارة إلى السلطنة كونها تميزت في هذا المجال، حيث تكافح سلطنة عمان التسول وتوجد الحلول البديلة لكل من يرغب في تقديم يد العون للأخرين من صدقة أو زكاة.
مساعدة منكوبي تركيا وسوريا عن طريق مظاهر العولمة السياسية:
يمكن لمظاهر العولمة السياسية أن تظهر بقوة من خلال مبادئ التوجيه الإعلامي النزيه للاهتمام بقضية منكوبي سوريا وتركيا، وذلك من خلال تفعيل دور السياسيين النزهاء، والإعلاميين المتفق عليهم إلى حد ما عربيا: كالشيخ التونسي عبد الفتاح مورو، والإعلامي زاهي وهبي، ومحمد كريشان وغيرهم من الوجوه التي يثق في توجهاتها وإخلاصها شريحة كبيرة من العالم العربي، وذلك بهدف تشكيل الرأي العام للوصول للهدف الأخير ألا وهو ترويج الرأي والسلوك الجماعي الإيجابي والسريع في هذه الحالة.
بناء على ما تقدم، أرى بأنه من الأفضل أن نكف على اتهام العولمة، ووصفها بالشيطان الأكبر القادم؛ لهدم كل ما هو جميل في عالمنا العربي الإسلامي؛ وأن نعمل على تطويها من أجل أن تصبح عولمة عالمية بمعايير ولمسات عربية تصب في صالح تطويع العولمة، وأن نتذكر بأن المصائب والجروح كزلزال تركيا وسوريا ليست فقط ما يوحد العرب، فكوننا نتشارك نفس التاريخ فهذا يعني أننا نتشارك نفس الإنجازات العلمية والحضارية العظيمة، فالتذكير بالمحاسن من شأنه شحذ الهمم نحو مستقبل أفضل!