أُسكُبوا على بعض خصوصياتكم ماء الحياء
جميعنا يدرك ما لشبكات التواصل الاجتماعي من قيمة تواصلية عالية، وفرص مربحه لتعزيز الخبرات ورصد التجارب وإبراز المواهب وخلق مساحات أكبر من الحوار التفاعلي بين مجموعات وأفراد من مختلف بقاع الدنيا يجمعها رابط البشر، حتى أصبحت متنفسا لدى البعض للتعبير عن المزاج وتبادل الأفكار وقراءة ما بين السطور؛ غير أن التعامل مع هذه الشبكات أخذ يحمل طابعا آخر يقوم على ردة الفعل، بيئات افتراضية تبحث عن حقوقها بعد أن شوهتها الأيدي، وتعدت عليها مزاجيات البشر الخارجة عن الذوق والحياء في بعض الأحيان، وأصبحت تبحث عن معين للفضيلة والقيم والأخلاق، تصقلها لتبقى راقية السمعة، لقد أدخلنا عليها بعض الزيادات غير المطلوبة، وحشرنا أنفسنا في مزايدات الربح والخسارة، فقد كان ينبغي أن نتعامل معها في ظل هدف وجودها الإيجابي ونوجهها لصالحنا الإنساني، لتساندنا وتأخذ بأيدينا، وتفتح لنا أبواب الأمل لعالم متجدد، تسبح فيه خيالاتنا، وتكبر فيه أحلامنا وطموحاتنا، لنسترجع بعدها ما يعيننا على بلوغها، لذلك كان علينا أن نقنّنها، نحدّد عملها، نوجّه مقصدها نرسم طريقها، نثبتّها في وضع السكون، إلا بعد أن نأذن لها في وعي ونثريها في حكمة وهدف، لقد ادخلنا خصوصياتنا فيها فبدت تتعامل معنا بطريقة أخرى، لم نستطع إيقاف أثرها، لقد فلت زمام القيادة والتحكم من أيدينا، وما الهروب المستمر من شبكات التواصل ، وكلمات التأنيب والعتاب التي تحدث بغلق الحسابات أو إيقاف تنشيطها، إلا بعضا من مساحة الحرية المطلقة التي أتحناها لأنفسنا في التعامل معها، دون أن نعي ماذا نفعل أو نتأمل فيما نصنع.
نعم ليكون حديثنا عن نجاحنا وتفوقنا وتطورنا وقوة عطائنا وتغيّر منهجنا وسمو سلوكنا وتغيير قناعاتنا، لكن بدون مؤثرات تجميلية أو تصنّعات غلب عليها جانب الظهور السالب، حتى أوهمنا أنفسنا بأننا نمارس الأفضل ونفعل المرغوب، لقد تواطئنا على أنفسنا حتى أصبحت شبكات التواصل طريق البعض للتهكم والسخرية والتتبع أو الاستفزاز، إذ أن الخصوصية التي نتحدث عنها، ليست في أشكالنا ووجوهنا ونجاحاتنا وتفوقنا وحصولنا على شهادات تفوق أو درع إنجاز؛ بل في النكهات والمزاجيات الأخرى التي لها مساحاتها الخاصة ومواقعها خارج إطار هذه الشبكات، فلا يفترض أن تخرج من محيطها وحصنها، الذي يحويها أمنا وأمانا ويحتويها حبا وعاطفة وجمالا، حتى أصبح البعض يعيش حياة افتراضية لأبعد حدودها ، ظنا منه أن كل شيء يجب أن يخرج لعالمه الافتراضي المأهول بالبشر، فيسعى جاهدا لأن يُعلم الآخرين بالحالة التي يعيشها، والموقف الذي هو فيه، والطريقة التي يتعايش فيها، وبرنامجه اليومي والأسبوعي الذي يعيشه مع أسرته وبناته وأبنائه وصغاره, وأمهاته وزوجاته ومحارمه، وطعامه وشرابه ومتنزهه، وانتقاله وتنقّله وتسوّقه وزوّاره ، وحله وترحاله وسفره وحضره، وصلواته وعباداته، وصدقاته وزكواته، ومنامه وصحوته، ومكتبه وعمله واجتماعه، ولقاءاته وزيارته لأمه وأبيه، واستلطافه لأرحامه وحضور جنازه صديق أو تلبيه دعوة أخ ، وهكذا أصبح كل شيء مكشوف وواضح لكل ذي عين، ولو تتبعنا صفحات البعض لقرأنا فيها أدق تفاصيل حياته اليومية مع نفسه وأسرته وبيته، وعرفنا من خصوصياته ما لا يعرفه هوه عن نفسه، وفهم لطبيعة حياته وعلاقاته ما خفي عليه بنفسه، حتى أصبح التنافس بين البعض في كيفية جعل صفحته في الفيس بوك والانستجرام وغيرها، محط متابعة للجميع ، يسلط الضوء فيها على جديد قدمه، أو مبهر يسترق الأنظار بشأنه، حتى ضاعت بذلك الخصوصيات، وتحولت شبكات التواصل إلى بيوت كاملة وأحداث دقيقه تحكي تفاصل العلاقات اليومية ، هذا الآمر انطبق على الرجل والمرأة على حد سواء، بل وتفوقت البعض منهنّ في ظل ما يتميزن به من سمات الجمال والذوق والفطرة الأنثوية، فتحولت الكثير من الصفحات والمواقع إلى قصة فتاة تعيش يومها منذ الصباح، تبرز أدق تفاصيل حياتها اليومية مع أسرتها ونفسها وصديقاتها، وهي على شط البحر، أو في استرخاء لتناول كوب شاي أو قهوة أو غداء أو عشاء، وبين نقش حناء على أيدي حسناء، أو كحل علي عين مخضبة بالجمال ـ أو زينة في نحر يافعة، أو مسكة قلم في يد غيداء، أو رشة عطر، أو مسكة هاتفـ أو نظرة عين، أو لقاء مع من أحبّت، أو بعثرة قلم وهدية لمن عشقت.
إننا جميعا نحب أن نظهر في أفضل حليه، ونسعد أن يرانا الجميع في حياة الأمان والسعادة والحب والتعاون والمودة والرحمة، ما نعيشه من دلال وجمال، وصحة وأمل ولقاء وكل شيء جميل ، ولكن ندرك أيضا أن يكون ظهورنا فيها بوعي ، وتعاملنا معها بحكمه، لنستمتع بلحظات الخصوصية، ولنعيشها مع انفسنا وأسرنا ومن أحببنا في جو مفعم بالحب والسعادة، عيشوا الأماني والأمنيات، واستعيدوا ذكريات الأيام ولقاءات الأحبة، وتذكروا من أحببتم ومن عايشتم لحظات السعادة معهم، اجعلوا لأولادكم فسحة بينكم، والتقطوا لهم صور ذكريات خالدة ؛ ولكن في محيطكم الداخلي وستركم العائلي، لتستريحوا وتسعدوا وتعيشوا حياتكم بعيدا عن عالم الفضائيات الذي لا يرحم ثقتنا وإن ظننا به خيرا، اسدلوا على حياتكم ثوب الجمال والسعادة والحياة الهانئة، ولكن بدون تزييف أو خروج عن مقتضى الحس الروحي به والاستمتاع به لوحدكم، ليس عيبا أن نتحدث عن كل شيء جميل في حياتنا أو أن يعرف الآخرون ما نحن عليه من نعيم وفضل، ولكن لندرك أيضا أننا ينبغي أن نكون حذرين لأبعد الحدود، ونأخذ احتياطاتنا حتى لا تسلبنا التقنية خصوصياتنا كاملة أو تضعنا في الأمر الواقع الذي تريده هي.
لنصنع من شبكات التواصل مساحات للعطاء والتأمل والإنتاج والتفكّر والحوار والنقاش، من أجل عالم يسوده السلام ويعيش إنسانه حياة الأمن والوئام والتنمية، ولكن بدون أن تكون خصوصيتنا الرهان الذي نحصل بسببه على إعجاب الآخرين لنا، أو زيارتهم لصفحاتنا أو تعقيبهم على منشوراتنا، فبعض خصوصياتنا خط أحمر لا نسمح للآخرين معرفتها أو التعّرف عليها، فلا نكن سببا في حصولهم عليها بدون مقابل، اتركوا بعض خصوصياتكم في البيوت فهي لها ستر، وخير حاضن وحصن، وأقدس مكان وطهر، إنها دعوة لإعادة النظر في تعاملنا مع هذه الشبكات، وتأمل أكبر في اختيار ما نضعه فيها، لنترك الخصوصيات الدقيقة لأنفسنا وفي ذاكرتنا وألبوماتنا لنطلع عليها عندما تجتمع الأسرة، فما تشير إليه إحصائيات وحالات الابتزاز الإلكتروني وتعدد أدواتها وتشعب طرقها وألياتها، جزء يسير من هذا التساهل السلبي نحو التقنية والثقة العمياء في أسماء وهمية وعصابات باتت تُرهب هذه الشبكات، فاحفظوا لأنفسكم قدرها وصونوا حياتكم وأسركم وصغاركم.
وتبقي هذه اللطائف وجهة نظر شخصية قد نتفق ونختلف بشأنها، ولكننا نعي جميعا بأن مشتركنا، هو أننا على قناعة بالحاجة إلى إعادة قراءتنا للتقنية واستخدامنا لشبكات التواصل الاجتماعي وطريقتنا في إثراء صفحاتنا، هذا المشترك هو ما يتيح لنا فرص الالتقاء في أفكارنا، فرصتنا لنطرح قضيتنا مع التقنية بثوب جديد، ولكن هذه المرة ليست في كونها هي المتهم، بل لأننها المتهمون والمذنبون والمخطئون والغارقون في بحر التسويف وحب الظهور السلبي على حساب أخص خصوصياتنا وأدق تفاصيل حياتنا اليومية، فلنسكب على بعض خصوصياتنا ماء الحياء، فبه نسعد ونرقى ونعيش الجمال وتحتوينا السعادة.